رحلة محسن وشمس لتكريم مهاجرين لفظهم بحر "جرجيس التونسية"

لم يكن شمس الدين مرزوق البحّار الخمسيني، يتوقع أن البحر مصدر رزقه سيغيّر نظرته للإنسان وللحياة عامة.

فمنذ 5 سنوات، عثر أثناء عمله في سواحل جرجيس على جثة مهاجر أفريقي فانتشلها وسلمها للشرطة هناك.

تولّت السلطات مهمة فحص الحمض النووي والدفن في مقبرة نائية منسيّة، تضم ما تبقى من أجساد ضحايا "الحرقة" (الهجرة في قوارب) التي فتتّها ملوحة مياه البحر، ورفض بعض السكان دفنهم في مقابر المسلمين.

هذه الحادثة مثّلت صدمة للبحار شمس الدين، وهو الذي كان يظن أنه يعرف أسرار البحر، ليقرر إثر ذلك الانضمام إلى الهلال الأحمر التونسي متطوعاً ضمن فرق إعاشة المهاجرين وغيرها من المهام الإنسانية.

يقول شمس الدين لبلينكس إن هذه التجربة دفعته للتفكير في تخصيص مكان يحفظ كرامة المهاجرين بعد وفاتهم، وترك أثر لذويهم الذين ربما يبحثون عنهم يوماً ما.

إمكانياته المادية لم تكن تسمح له بشراء أرض وتحويلها إلى مدفن، فجمع التبرعات وقام بادّخار مبلغ على امتداد عام كامل لتحقيق غايته.

طيلة 5 سنوات، أكرم شمس الدين ما لا يقل عن 600 جثة مهاجر غير نظامي مع الحرص على القيام بكل الإجراءات القانونية، فيسلم البقايا إلى الأمن، ويحصل إثر ذلك على رقم خاص بكل جثة ونتائج الحمض النووي، وأخيراً يخصص لكل منها حفرة صغيرة لضيق مساحة أرضه.

يخصّ القبطان جثث الأطفال بمعاملة فريدة، فيضع على قبورهم ألعاباً ودمى وتماثيل تجسّد براءتهم ولهوهم الذين حُرموا منهم.

ويستهجن شمس الدين التعامل غير الإنساني مع الجثث، إذ يعتبر أن هوياتهم المجهولة وجلدهم الأسود المتحلّل، لا يبرر رميهم في مقابر جماعية لا تحترم الذات البشرية.

شمس الدين لا يكرم ضحايا الهجرة فحسب، فهو أيضاً يأوي الأحياء في منزله ممن لا يقدرون على توفير مكان آمن يقيمون فيه، إلى لحاقهم برحلة موت جديدة.

يؤكد البحار أن ما يقوم به يكلّفه ملاحقة الشرطة والمضايقات المستمرة، لكنه لا يستطيع أن يغمض عينيه أمام إقامة إنسان في العراء، لمجرد أنه يختلف عنه في العرق أو اللون أو الدين.

في المدينة ذاتها، يخلّد ساعي البريد المتقاعد محسن لهيذب، ذكرى الغرقى من المهاجرين في حديقة منزله الشاسعة التي حوّلها إلى متحف يضم آلاف القطع، وهي عبارة عن أغراض الضحايا التي يجمعها قرب سواحل جرجيس.

في متحف "ذاكرة البحر والإنسان" يجمع محسن قطعاً منذ سنة 1993، مما خوّل له الدخول إلى موسوعة غينيس للأرقام القياسية.

فور دخولك إلى المتحف تنتابك مشاعر مختلطة بين الرهبة والانبهار، فمحسن يصفف بشكل فني ومتناسق المئات من أحذية وملابس المهاجرين، ويرفق كل "لوحة" بتاريخ العثور عليها وقصة يتخيلها للمهاجر صاحب الغرض.

قرر محسن قبل 4 سنوات إقامة حفل زفاف صوري إثر عثوره على معطف وردي يبدو أنه كان لطفلة قضت غرقاً بالمتوسط، فأقام لها عرساً كما لو أنها عاشت وحققت أحلامها.

يؤكد محسن أنه أحيانا يتعرّض للسخرية من المحيطين به ويتهمونه بالجنون، ولا يعزيّه في ذلك إلّا زيارات الأجانب والسائحين لمتحفه، وخاصة الرحلات التي تنظمها المدارس للطلاب، فينقل لهم بعضاً من أفكاره التي تُعلي شأن الإنسان.

إلى جانب ذلك يحتفظ محسن بمئات الرسائل البحرية التي عجز في أغلب الأحيان عن فك رموزها، أما تلك التي نجح في قراءتها فهي عبارة عن مناجاة ودعاء لإنقاذ المهاجرين أو عبارات حب يائسة أرسلوها لزوجاتهم وأبنائهم.

وعلى عكس شمس الدين مرزوق، فإن محسن يأبى مساعدة المهاجرين على الإقامة ومحاولة المشاركة في رحلات الانتحار كما يسميّها.

فهو يعتبرها هلاكاً محققاً ،لكنه في المقابل لا يمتنع عن محاولة إقناع القادمين إلى جرجيس بتسوية وضعياتهم والعيش هناك بصفة قانونية ودائمة، أو العودة إلى أوطانهم إذا سمحت الأوضاع الأمنية بذلك.