"نجع قمرة".. آخر بدو تونس الذين تنقلوا "على ضوء القمر"

بعد ساعات طويلة من الانتظار، أوقف كهل سيارته الفخمة ويطلب من جيهان أن تبيعه لتراً من الحليب ليقدّمه علاجاً لزوجته المصابة بالتهاب الكبد الفيروسي، بعد أن اقتنع بقدرة هذا المشروب في مساعدة زوجته.

تقدّمت جيهان نحوه وأصرت على بيعه اللتر الواحد مقابل عشرين دينارا (6 دولارات)، لكن الزبون رفض السّعر متعللا بأن الإبل ترعى في أراضي الدولة، وأن أصحابها لا يدفعون مقابلاً للعلف.

تشرح جيهان، الثلاثينية، أنها من محافظة سيدي بوزيد الداخلية وسط البلاد، لكنّها تنحدر من قبيلة توارثت الترحال أبا عن جدّ متمسّكة بنمط عيشها منذ مئات السنين، حتّى بعد استقلال البلاد وتغيّر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

سُمّيت هذه القبائل بـ"نجع قمرة" لأنّ أفرادها كانوا يتنقّلون مستدلّين بضوء القمر للعثور على مستقرّ.

لكن اليوم وفي عام 2024 لنجع قمرة إقامتان، الأولى شتويّة، وتكون في الأراضي المهملة المتاخمة للعاصمة وتحديدًا في منطقة العقبة، 15 كيلومترا غربي العاصمة، وأخرى صيفية وتكون في الأراضي الفلاحية شمالي غرب البلاد، حيث المرعى أثناء موسم الحصاد وبعده.

تؤكد جيهان أن قبيلتها كانت وحتى سنة 2019 تخيم في "منطقة المروج" بالعاصمة أيضاً، ولكن الأمن داهم المكان وأزال الخيام لأن وجودهم مخالف للقانون، لذلك خيروا اتخاذ مستقر جديد بمنطقة العقبة، وما تزال السلطات الأمنية تضايقهم من حين لآخر وتمنع قطعان الإبل والخرفان من الرعي مهددة بإعادة طردهم، بحسب ما تقول لبلينكس.

حاولنا الاقتراب من مكان التخييم ولكنّ إحداهنّ منعتنا "احتراماً لحرمة مكان إقامتهم" بيد أنها أخبرتنا عن بعض تفاصيل حياتها.

تقول سالمة وهي أخت زوج جيهان، أن بيع حليب الإبل والأغنام ليس مصدر رزق العائلة الوحيد، فالنّساء تحرسن الخيام والمواشي وتبعن حليبها، بينما يخرج الرجال للعمل في مجالات مختلفة كالنقل والبناء وغيرها.

تضيف سالمة لبلينكس: "هذا المخيّم يحتضن قبيلة بأكملها تضم الأجداد والأولاد والأحفاد، والأطفال أيضا يزاولون تعليمهم بالمدرسة الرسمية القريبة من المخيّم، لأن القانون التونسي يعاقب بالسجن الوالدين عند تخلّف الأبناء عن المدرسة بين 6 و16 سنة.

وفي هذا الإطار، تؤكد سالمة أنها اضطرّت إلى تعليم ولديها رغم أنها تعلم أن مستقبلهم مرسوم مسبقا: رحّل يرعون الأغنام والإبل.

تكشف جيهان في حديثها أنها تجهل سنها تحديداً وأن تاريخ الميلاد الموجود على بطاقة هويتها قد يكون مغلوطا.

فالعائلة لم تعلن عن ولادتها في وقتها، ووالدتها وضعتها عندما كانت القبيلة بأحد حقول باجة بالشمال صيفاً.

ورغم ظروف الحياة القاسية ولباسها الرث، إلا أن جيهان تؤمن بأن حياة الترحال قدرها، وأنها اعتادت النوم في العراء وكذلك طفلاها.

ورغم أن السلطات التونسية لا تملك إحصائيات دقيقة بخصوص أعداد البدو، إلا أن الباحثة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم، تؤكد أن أعدادهم تلاشت منذ بداية القرن الماضي.

وتقول الباحثة "المجتمع التونسي من أكثر المجتمعات استقرارا وظاهرة البدو بدأت تتلاشى منذ أن فرض المستعمر الفرنسي بداية القرن الماضي على القبائل الاستقرار بمدن الحوض المنجمي الغنية بالفسفاط جنوب غربي البلاد".

وبينّت أن الأعداد القليلة المتبقية من القبائل التي مازالت ترتحل، متمسكة إلى اليوم بهذه الحياة رغم أنها أصبحت تتعارض مع قوانين البلاد