رياضة
.
كرة الشارع مصطلح نعرفه جميعا، هي تمثيل لمباراة من 40 دقيقة لفريقيْن، يضم كل واحد منهما 5 لاعبين، والشارع هنا مصطلح رمزي، إذ تطورت اللعبة مع الوقت من الشوارع إلى ملاعب مخصصة، فهو يرمز عادة للعب غير النظامي والبعيد كل البعد عن المباريات التي تشاهدها والتي يُطلق عليها النظامية.
شكلت كرة الشارع رمزا جميلا لطفولة ومراهقة عدد من الشباب حول العالم، وهي أشبه بلغتهم العالمية، لدرجة أنه في عام 2006 نُظمت بطولة كأس العالم باسمها، بجانب الكارتون الشهير "أبطال كرة الشارع".
الأمر ليس بهذه الصعوبة، كرة، و10 لاعبين، وساحة، ومرمى.. بما تيسر، أحيانا "الشبشب" أو حجارة، وأحيانا شنطة المدرسة، وأرض الملعب.. هناك أرض رملية أو أسمنتية أو ترابية، وإذا كنت مدللا فعشبية.
والقوانين قائمة على الاحترام تماما، والاحترام هنا ليس كل منا للآخر، لكن لقرار الحكم، لأنه سيكون هناك العديد من القرارات الجدلية.
كرة قدم الشارع أشبه بكرة الشواطئ المنظمة، عادة يكون كل شيء بديهيا، نشأتها بتاريخ محدد لم يُبحث فيه بعد، لكن فكرتها هي نفسها نشأة كرة القدم، كرة يطاردها الجميع في الشوارع، سواء كانت البداية في الصين أو إنكلترا.
لكن مع الوقت أصبحت سهولة اللعب محدودة في ملاعب مختارة، وأحيانا باهظة الثمن للإيجار، ما يجعل الشباب يعزفون عن اللعب بوجه عام، وبات من الصعب توافر اللاعبين والأموال والكرة، والعديد من الأشياء.
يقول أحمد المسيري، وهو مدير تقني وفي الوقت نفسه كان يلعب كرة الشارع، في تصريحات خاصة لـ"بلينكس": "الأمر كان بسيطا، كنا نعود من المدرسة، لدينا 10 لاعبين وكرة، لا يهم هنا متى سنبدأ اللعب.. في كل الأوقات، فجرا وصباحا ومساء".
إياد صالح، كاتب مصري ومؤلف فيلم الحريفة، الفيلم الذي يرصد رحلة طالب مدرسة دولية يوجد في مدرسة عامة ويتحول من اللعب في ناد إلى كرة الشارع، يتحدث لـ"بلينكس" عن كرة الشارع قائلا: "لم يعد سهلا أن تعود الكرة إلى الشارع، لنكن واقعيين، إذ أصبحت هناك العديد من السيارات والناس والمباني".
لكنه أيضا منح الحل: "أرى لكي تعود الفرصة للعثور على مواهب عديدة في مصر، أن تعود فكرة وجود الساحات الشعبية مجانية أو بأجر رمزي للغاية، لتمنح الفرصة للأولاد في كل حي ومنطقة وتجمع، أن يمارسوا لعبة كرة القدم ويندمجوا في هذه الفكرة".
وواصل: "الكرة بشكل ما تنقذ الأولاد، ففي سن المراهقة، تسحبهم الكرة بعيدا عن الإدمان والجريمة وغيرها، لأنك طوال الوقت تلعب، ولديك رياضة تشغل وقت الفراغ الكبير، فالكرة منقذة".
وتابع: "فكرة أن كرة القدم تتحول إلى شيء تُدفع فيه أموال طائلة ليست جيدة، لعدم سعي الجميع لأن يكونوا لاعبين محترفين ويدفعوا أموالا للدخول إلى فئات الناشئين، لكنّ هناك موهوبين في الشارع يحتاجون إلى الشعور بأنهم كذلك".
واستطرد "ما قد يعيد الكرة إلى مكانة مهمة للموهوبين، هو تنظيمها، أتفهم أننا لن نتمكن من اللعب مباشرة في الشارع، ولم يعد الأمر مثل التسعينيات وبداية الألفية".
وقال: "كنا نلعب في مركز الشباب والتذكرة كانت بربع جنيه، ما يعني أننا كفريق ندفع جنيها وربع الجنيه، حاليا أصبح الأمر أغلى ماديا كثيرا".
بينما قال ضياء السيد مدرب منتخب مصر السابق لـ"بلينكس": "كرة الشارع كان لها دور كبير في مشاركة الفقراء، لكن هذا لا يمنع إذا أقيمت الأكاديميات بصورة جدية وليس بصفة استثمارية فقط وتعتمد على التطوير وتأهيل اللاعبين، أعتقد أن هناك أكاديميات ناجحة في السنغال والمغرب وتعتمد عليها أوروبا، لكن كرة الشارع ستظل مهمة للغاية خاصة للفقراء".
وأكمل "لعبت في الشارع كثيرا، شاركت في دورات في مختلف المناطق".
يكمن جزء من سحر اللعبة أنها رياضة بسيطة، لأن الألعاب تُمارس في منطقة أصغر وعدد اللاعبين أقل، وبالتالي كل لاعب يشارك كثيرا، ويحصل على المزيد من الوقت مع الكرة، ولدى الجميع بضع ثوان فقط قبل الحاجة للتمرير أو المراوغة، ما يجعلها مثالية لتنمية المهارات.
متوسط لمس الكرة في المباريات الرباعية والخماسية لكل لاعب كل 4 ثوان، في حين مباريات الـ11 لاعبا هناك دقيقة كاملة لن يلمس خلالها اللاعب الكرة.
حجم الملعب في كرة الشارع يتغير باستمرار، اللاعبون يتجددون دوما، زملاؤك اليوم قد لا يكونون ذاتهم غدا، دائما هناك معلومات جديدة واتخاذ قرارات دون تردد، تدريب تام للجسد والعقل معا.
خلال كأس العالم 2014، حلل علماء الرياضة تاريخ تطور أعضاء منتخب ألمانيا الفائز بلقب المونديال في ذلك العام، وسبب تميزهم عن أقرانهم في الدوري الألماني والهواة، والمثير للدهشة أن الفائزين بكأس العالم 2014 لعبوا كرة قدم شوارع أو أقل رسمية حتى سن 22 عاما. ولعبوا كرة قدم شوارع في سن مراهقتهم أكثر من أي شخص آخر.
قد يتساءل البعض ما الذي تضيفه كرة الشارع وما الذي تختلف فيه عن الأكاديميات؟ خاصة أن هناك الآلاف منها في مصر وحدها، ومع ذلك تشتكي الجماهير من قلة الموهبة في بعض الأحيان، فما المشكلة؟
للعلم كرة الشارع أنتجت لاعبين مثل زين الدين زيدان، ودييغو مارادونا، وليونيل ميسي، وكريستيانو رونالدو، ورياض محرز، وغيرهم.
يقول حازم إمام نجم منتخب مصر والزمالك السابق لـ"بلينكس": "كرة الشارع تنمّي المهارات، لا أعتبرها أفضل أكاديمية، لكن في جانب المهارة هي تنمي مهارة اللعب والسيطرة على الكرة وغيرها، لأن كرة الشارع مختلفة كليا عن 11 ضد 11، هناك فارق شاسع".
وواصل "لأن هناك لاعبي كرة شارع ولا يتمكنون من اللعب جيدا في الملعب الـ11".
بينما يقول تامر بجاتو مهاجم الأهلي والزمالك والمنصورة السابق لـ"بلينكس": "في رأيي كرة الشارع أفضل وأهم أكاديمية لكرة القدم في العالم، وهي التي أخرجت أكبر اللاعبين على مدار العصور في كل البلاد".
وتابع"كرة الشارع هي النواة الأساسية لكرة القدم في العالم كله على مدار العصور".
واختص "بلينكس" بقصة فريدة حول تجربته مع كرة الشارع قائلا: "كنت مع زملائي من اللاعبين، ووقتها كنت في ناشئي الأهلي نتجه إلى مطعم قريب من جامعة القاهرة، ووجدنا بعض الشباب يلعبون الكرة، قلنا لأنفسنا لنلعب معهم ونحن لاعبون محترفون".
وواصل: "صُدمنا، في الشوط الأول سجلوا 3 أهداف وكانوا ممتازين، وبشق الأنفس تعادلنا 3-3، ثم قلنا لهم (خلاص يا كباتن) وأنهينا المباراة".
مع تزايد التصنيع في مجال تحديد المواهب، باتت البراعة التي يتم تعلمها بصورة أفضل في كرة الشارع أكثر أهمية من أي وقت مضى، ففي عالم الاحتراف، من يتمكن من الاحتفاظ بحس العفوية والمشاغبة والمرح أكثر عرضة لتشكيل مستقبل اللعبة من أولئك الذين يتدربون بصورة جيدة بلا هوادة.
الفوضى التي تحدث في المباريات غير المنظمة تمنح اللاعبين الأدوات اللازمة للنجاح عند خوض مباريات منظمة، أولئك الذين تمت ترقيتهم من كرة الشارع إلى الأخرى الاحترافية يتمتعون بحماية مناسبة من الحكم، وأرضية ناعمة للركض، ومساحة أكبر، ما يمنحهم خطوة كبير أسهل في الواقع بالنسبة إليهم عن أقرانهم.
يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي، لماذا لا تقدم الأكاديميات المنتج نفسه الذي تقدمه كرة الشارع؟ هدف كرة القدم الرئيسي بجانب الرياضة خاصة في الشق المهاري هو التعبير عن الذات كأنك ترسم لوحة، فالكرة أبسط من كل التعقيدات بشهادة يوهان كرويف نفسه الذي قال: "لعب كرة القدم سهل للغاية، لكن لعب كرة قدم بسيطة أمر صعب للغاية".
يجاوب حازم إمام لـ"بلينكس" قائلا: "مدربو الأكاديميات هم السبب، فهم يبحثون عن الفوز فقط وليس تطوير اللاعبين، فيتجهون إلى اللاعب القوي بغض النظر عن نواحٍ أخرى، وبغض النظر عما إذا كان هذا اللاعب القوي سنه مزورة، ولا يكترثون لتطويرهم".
أما بجاتو فيقول لـ"بلينكس": "الأكاديميات في مصر تحديدا مختلفة، لأنها ربحية ومادية فقط دون أي اختبارات أو أي شيء، تدفع المال وتدخل، وليست من أجل صناعة المواهب الكروية، وتلك مشكلة كبيرة جدا".
وواصل "لأن اللاعب الجيد مستواه يتراجع بشدة إذا كان معه لاعب لن يستمر أو ليس مهتما بالكرة، قد يكون جيدا في رياضة أخرى لكن ليس كرة القدم".
وأكمل "الأكاديميات زادت بصورة كبيرة للغاية في مصر دون جودة، لأنهم يقبلون أي أحد، ما يضعف حتى الأكاديميات نفسها، وليس كرة القدم في مصر فقط".
واستطرد "لأن الأكاديميات يفترض بها أن تكون نواة للأندية وتنتج لاعبين لها، لكنها في مصر هدفها الرئيسي المال فقط، أكثر من 20 عاما ولا إنتاج، فقط بعض اللاعبين يمكن عدهم على أصابع اليد".
بينما قال إياد صالح: "الشارع أفضل أكاديمية كرة قدم في التاريخ، مع غياب الساحات الشعبية، أثر ذلك جدا في إنتاج المواهب، لأن الجميع ليست لديهم الفرصة نفسها في صرف المال على الكرة، كلما قللت الإتاحة قللت فرصة ظهور المواهب".
وتابع "كرة الشارع تقدم لك نوع لاعب مختلفا جدا عن الفرصة التي تتيحها الأكاديميات، يمكن أن ترى رونالدينيو أو ميسي وغيرهما".
يقول إياد صالح: "لأنني مقتنع أن الشارع هو أكبر مصدر للمواهب، كان هذا جزءا من فيلم الحريفة، أن الولد الذي يلعب على صعيد احترافي حينما شارك مع الأولاد في الشارع بدأت مهاراته في التطور، اكتشف أن لعب الشارع مختلف تماما عن اللعب في مستوى المحترفين الذي كان يلعب فيه، والموهبة فيهم هي موهبة خام جدا".
مروان محمد، أحد لاعبي كرة الشارع، يقول لـ"بلينكس": "لا أعلم من غير الكرة ماذا كنت سأفعل في حياتي، تخرج الكثير من الكبت، وضغوط المذاكرة وغيرها، تشعر وكأنك تتحدث مع الكرة تخرج همك فيها، أشعر بسعادة كبيرة حينما يتحدث معي أحد حول وجود حجز كرة للعب، ألعب في (أي حتة أي مكان)".
أما سيف محمد فيقول: "الكرة كل حياتي أشاهدها وأتابع أخبارها، لم أذهب يوما إلى حجز كرة، ولم أفرح، لم أفقد الشغف قط، الملعب يكون به سحر ينسيك اسمك".
اعتاد رياض محرز لعب كرة القدم في المساحات بين أبراج سارسيلس المنتشرة في ضواحي باريس الكبرى، لم يكن وحده كان هناك بليز ماتويدي، وبول بوغبا، ونغولو كانتي، وبينامين ميندي، وكيليان مبابي وغيرهم.
محرز تعلم المراوغة والتخطي والتحكم المذهل في الكرة في الشارع، قبل أن تمر السنوات ويكتب التاريخ مرتين، مرة مع ليستر سيتي وأخرى مع مانشستر سيتي.
أكد تحليل لأكاديميات الدوري الإنكليزي الممتاز في 2020 أن هناك دورا حاسما لكرة الشارع في رعاية الرياضيين، وأظهرت المقارنة بين مجموعتين من اللاعبين الذين تخرجوا من خلال هيكل الأكاديمية وجود اختلاف بارز بعيدا عن ساحة التدريب، فاللاعبون الذين أتتهم عقود كانوا يشاركون في متوسط 9 ساعات كل أسبوع في لعب الكرة مع أصدقائهم في الشوارع والحدائق العامة، أما الذين لم تُعرض عليهم عقود فشاركوا في كرة الشارع لـ5 ساعات فقط في الأسبوع.
واين روني أسطورة مانشستر يونايتد وإنكلترا قال: "كل ما تعلمته في كرة القدم جاء من هذه المباريات الصغيرة في الشارع، الجانب التكتيكي يأتي لاحقا وسيأتي، لكن 95% من لعبتي تعود لتلك الأيام التي كنت ألعب فيها حينما كنت طفلا".
من المفارقات أن ما يفصل بين اللاعبين المطلوبين من أفضل أندية العالم عمن تم استبعادهم يوجد خارج الأكاديمية، إذ كان التدريب المنظم يمثل نسبة عالية جدا من تعرض الطفل للرياضة، لكنه يمكن أن يعوق نمو قدرة اللاعب على حل المشكلات بنفسه.
ثبت أن اللاعبين الذين يلعبون كرة شوارع عندما كانوا أطفالا يمتلكون ذكاء فائقا في اللعبة وبصورة أساسية القدرة على توقع المواقف والتعرف عليها في أثناء المباراة واتخاذ القرارات الصحيحة تحت الضغط.
روح الشارع هي القاسم المشترك بين أعظم المواهب الرياضية، فتحية إلى كل نجم كرة شارع لم يصل لنجاح ميسي ورونالدو لكنه لا يزال بطلا لشارعه.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة