إيمان خليف.. فتاة من حديد انتصرت على "الثالوث المدمر"

في الثاني من مايو 1999، كانت عائلة الجزائري عمار خليف على موعد مع خبر مفرح، إذ استقبل مولودته الأولى إيمان، لكن قد يبدو صعبا تخيل عبور طيف أحلام وقتها على مخيلته تصور له الوافدة الجديدة بأنها بطلة أولمبية في المستقبل.

يعود ذلك لطبيعة المكان البسيط، حيث لا يتخطى عدد السكان في بلدية عين سيدي بوعلي الواقعة بولاية الأغواط 10 آلاف نسمة.

وما إن كبرت إيمان قليلا حتى انتقلت الأسرة إلى قرية بيبان مصباح بولاية تيارات الجزائرية لتستقر هناك.

وبعد أن بلغت إيمان 6 أعوام، أبدت شغفا تجاه رياضة الملاكمة، لكنها تلقت صدمة من والدها الذي عارض ذلك وفاء للعادات المجتمعية هناك، ما جعلها تحاول مع كرة القدم.

وفيما كانت تكابد للتكيف مع الكرة، اكتشف مدربها موهبتها في الفنون القتالية بسبب بنيتها وطولها الفارع، ليخبر مدرب ملاكمة أنه "عثر على كنز مهمل"، ليبدأ الأخير رحلة إقناع والدها، بل استعان بعمها للتوسط لديه.

وما إن وافق والدها، حتى اصطدمت الطفلة إيمان بواقع آخر يتمثل في العوز المالي، إذ تحتاج الكثير من المصاريف للذهاب إلى صالة رياضية تبعد أكثر من 10 كيلومترات عن منزلها البسيط.

واضطرها ذلك إلى بيع الخبز المصنوع بالمنزل على أرصفة قريتها، ومن ثم بيع الخردة المعدنية، وأطباق الكسكسي.

وفي ظل تلك المعاناة، والصبر على مطاردة حلم الملاكمة بالتدريبات، كانت إيمان خليف على موعد في 2018، مع أول خطوة نحو المجد، عندما تم اختيارها لمعسكر منتخب الجزائر للملاكمة، ولم يكتمل العام حتى توجت ذلك بالمشاركة في بطولة العالم للملاكمة التي حلت فيها بالمركز 17، وكانت بعمر 19 عاما وقتها.

وفي 2019 شاركت مرة أخرى بنفس البطولة التي جرت بروسيا، لكنها احتلت المركز 33.

وفي عام الكورونا، كانت إيمان خليف واحدة من أول 3 ملاكمات جزائريات ذهبن إلى طوكيو في الألعاب الأولمبية 2021، وفازت في مباراتها الافتتاحية لكنها خسرت الثانية أمام الإيرلندية كيلي هارينجتون.

وفي 2022، أصبحت أول ملاكمة جزائرية تصل إلى نهائي بطولة العالم، الذي خسرته.

بدا أن إيمان خليف وصلت الذروة وباتت جاهزة لحصد أول لقب في مونديال الملاكمة الذي يشرف عليه الاتحاد الدولي للعبة، لكنها كانت على موعد مع الصدمة، إذ تم استبعادها قبل فترة وجيزة من نهائي بطولة 2023 المقامة في نيودلهي الهندية.

وأرجع رئيس الاتحاد الدولي للملاكمة الروسي عمر كريمليف الأمر إلى عدم استيفائها رفقة الملاكمة التايوانية لين يو تينغ "المعايير".

ولاحقا أرجع ذلك إلى وجود هرمونات ذكورية.

وكاد هذا القرار أن يُنهي مسيرة إيمان، لكنه جاء في سياق أزمة بخليفة جيوسياسية بين اتحاد الملاكمة بقيادة الروسي كرمليف واللجنة الأولمبية الدولية، إذ تغذى الخلاف بينهما بشريان الحرب الأوكرانية.

وفي يونيو 2023، أعلنت اللجنة الأولمبية، عدم اعتماد معايير اتحاد كريمليف، وأنها ستنظم تصفيات أولمبياد باريس 2024، رغما عن قرار الاتحاد الدولي للملاكمة، ما جعل إيمان تعود مجددا إلى حلبة المنافسات.

بدا عام 2024 مبشرا للغاية لإيمان خليف، إذ بعد فوزها بـ"معركة الأهلية الجنسية" وحضورها أولمبيا من بوابة باريس، تم تعيينها سفيرة لليونسيف في شهر يناير الماضي، ما يمثل تتويجا لإرادة حديدية ميزت البطلة الجزائرية.

لكن ما إن انطلق أولمبياد باريس 2024، وحان موعد أول لقاء لخليف، حتى وجدت نفسها في خضم أمواج من الجدل والسخرية والتنمر.

والسبب، هو انسحاب منافستها الإيطالية أنجيلا كاريني، بعد 46 ثانية فقط، قبل أن تذرف دموعا تسببت في عاصفة من الهجوم على الفائزة إيمان خليف، والتشكيك في هويتها الجنسية، أي أنها رجل متحول جنسيا.

ومنذ ليلة 1 أغسطس موعد النزال، لم يتوقف الهجوم على إيمان خليف، لتتحول إلى قضية رأى عام عالمية:

• بدأت الحملة بعد فوز إيمان على كاريني بتغريدات على السوشيال ميديا تشكك في هوية إيمان الجنسية، وتطالب بطردها من الأولمبياد.
• سرعان ما جذب الجدل شخصيات عامة، مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وكاتبة سلسلة "هاري بوتر" جيه كاي رولينغ، والملياردير إيلون ماسك.
• دافعت اللجنة الأولمبية بشراسة عن إيمان، ووصفت الحملة ضدها بـ"الاستهداف غير الأخلاقي".
• في اليوم التالي للنزال، أصدرت اللجنة الأولمبية الدولية بيانا دافعت فيها عن إيمان خليف وزميلتها التايوانية لين تينغ، وهاجمت بشدة خطاب الكراهية تجاههما.
• دافعت اللجنة الأولمبية عن قرار تأهل إيمان خليف، وقالت إن إبعادها من مونديال الملاكمة كان فقط بسبب هزيمتها للروسية أزاليا أمينغيا، في إشارة إلى انتقام رئيس اتحاد الملاكمة عمر كريمليف.
• اضطر الجدل الكثيف والدها عمار خليف إلى إبراز وثائق تؤكد أنها ولدت أنثى، ولم تخضع لأي عمليات تحويل جنسي، لأن تغيير الجنس ممنوع بحكم القانون في الجزائر.
• قبل فوز إيمان خليف بيوم، وصل الجدل إلى مجلس الأمن الدولي، إذ اتهم نائب مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي الدول الغربية باحتكار الحركة الأولمبية وفرض أجندة مجتمع الميم "بشكل عدواني" على بقية العالم.
• الجزائر ردت بقوة على روسيا، وقال الدبلوماسي الجزائري توفيق كودري: "إيمان ولدت أنثى وهي الآن أنثى، لا يشكك في ذلك إلا صاحب أجندة سياسية".

الآن، تقف إيمان خليف في موقف قوة، إذ هزمت الجميع عندما فازت بالميدالية الذهبية، وكتبت قصة نادرة فيما يتعلق بالإرادة. ولعل أبرز ما قدمته إيمان خليف من دروس، هو الصلابة في وجه هذه الموجات مهما كبر حجمها.

وفيما كان هجوم ترامب شديدا على إيمان خليف، وبإمكانه نسفها رياضيا، بدأت تحليلات، بعد فوزها، تشير فقط إلى أنه وظف ذلك لصالح حملته الانتخابية، دون وجود رغبة حقيقة لاستهداف خليف رياضيا.

لكن ترامب عاد لينسف ذلك، بعدما هنأها بعبارة غريبة، إذ قال: "أهنئ الفتاة التي تحولت من رجل إلى ملاكِمة"، قبل أن ترد عليها إيمان خليف مجددا.

وبالنظر إلى حجم الهجوم على إيمان خليف، وتنوع وسائله وتكتيكاته، وصمودها في وجهه، قد يبدو هذا أكبر من مجرد انتصار شخصي لها، إذ يمكن أن يلهم سلوكها نجوم كرة القدم في مواجهة العنصرية من الجماهير والسوشيال ميديا.

لكن قبل ذلك قد يحتاج النجوم إلى إرادة تشبه إرادة خليف، التي سددت أول لكمة في وجه التنميط المجتمعي، عندما بدأت بلعب كرة القدم، وبعدها استخرجت رخصة قيادة دراجات نارية، وامتطاء الخيول، وهي الهوايات المحجوزة للذكور في مجتمعات محافظة.