صحة
.
لم تكن اللبنانية سلام.ع. تتوقع أن حياتها كادت ستنتهي بسبب جرعة دواء من المفترض أن تنقذها من المرض.
الشابة البالغة من العمر 30 عاما، والتي تصارع مرض السرطان، كادت "جرعة واحدة" من دواء مزوّر أن تنهي حياتها، بحسب قولها. فالعقار الذي حصلت عليه سلام مصدره تركيا، لأن الكثير من أدوية السرطان مقطوعة في لبنان أو أسعارها باهظة، والحال هو نفسه مع أدوية كثيرة، خصوصاً تلك الخاصة بالأمراض المزمنة.
وسط هذا الواقع، لجأ الكثيرون إلى اعتماد "مهنة" نقل الدواء من تركيا إلى لبنان، ففي حين أن هذه الخطوة مربحة، إلا أن هناك من استغلها لأمر آخر غير متوقع.
فكيف يجري استغلال عملية نقل الأدوية وتحويلها إلى تجارة؟ وما الذي يجعل بعض الأدوية المنقولة من تركيا إلى لبنان "جرعة للموت"؟
تعتبر المواطنة سلام.ع ضحية "مسحوق مفبرك" قيل أنه لعلاج السرطان، لكنه في الحقيقة كان عكس ذلك تماما.
ما حصل مع سلام كان مأساويا، ففي بلدها لم تستطع الحصول على علاجها الكامل بسبب انقطاعه، ما اضطرها لشرائه من الخارج.
سلام كشفت لبلينكس تفاصيل ما حصل وتقول "كنت بحاجة إلى دواء كاتسايلا المقطوع في لبنان آنذاك. حينها، طلبته من أحد الأشخاص خارج لبنان للحصول عليه وثمنه 800 دولار. وبعد وقت قصير، وصل الدواء إلى لبنان ضمن براد خاص، وتم تسليمه إلى المستشفى وهناك اكتشف الأطباء أنه كان مزورا".
مريضة سرطان ومجموعة من الأدوية لحالتها، بيروت، لبنان. فرانس برس
وتابعت "حياتي كانت على كف عفريت، لأنه في حال أخذت الدواء المزور، كان من الممكن أن أتعرض لتجلطات في الشرايين. عندها، طلبنا الدواء مجددا من الخارج بعد التثبت منه، ودفعت مجددا 800 دولار".
اللبناني فادي.م يأتي بالأدوية إلى لبنان من تركيا منذ العام 2021، وقد بدأ نشاطه إثر أزمة الدواء التي شهدتها البلاد على صعيد الأدوية المزمنة وغيرها.
يتحدث فادي عبر بلينكس عن تفاصيل خطوة نقله للأدوية من تركيا إلى لبنان، مؤكدا أنها أضحت بمثابة "مهنة" جانبية بالنسبة له، وقد بات لديه "زبائن" يطلبون الدواء شهريا.
نشاط فادي التجاري هذا بدأ خلال توجهه بنفسه إلى إسطنبول وغيرها من المدن التركية بهدف السياحة، وفي الوقت نفسه كان يشتري الأدوية وينقلها إلى لبنان عبر حقيبته.
يقول فادي إنه أمّن الأدوية لعائلته ومعارفه ولمواطنين آخرين بدأوا يطلبون منه شراء العقاقير لهم من تركيا نظرا لسعرها الرخيص، خصوصا أدوية السرطان.
يلفت فادي إلى أنه من خلال "جولاته السياحية"، تحول إلى "دليل للدواء"، فبات يتلقى الطلبيات، فيما أضحى يزور تركيا كل شهرين ويأتي بالأدوية المطلوبة منه.
حقائب لمسافرين قادمين إلى لبنان في مطار رفيق الحريري الدولي. فرانس برس
ماذا عن أرباحه؟
يقول فادي إنه يفرض على كل علبة دواء رسما بالدولار الأميركي فيما القيمة تختلف بحسب نوع الدواء وكميته، مشيرا إلى أنه لا يسافر إلا بعد أن تصبح "الكمية محرزة بالنسبة له"، بحسب قوله.
يضيف "ما يجري هو أنني أقوم باحتساب الكمية والأسعار، ومن خلال ذلك أسعى لتحصيل سعر تذكرة السفر وتغطية بعض المصاريف، ما يعني أن الذهاب والإياب سيكون مجانا من خلال الأرباح التي أضعها على الدواء الذي أقوم باستقدامه إلى لبنان".
يعتبر فادي أن الأمر الذي يقوم به يندرج في إطار التجارة المشروعة، ويقول "ما أقوم به ليس ممنوعا قانونيا، بل أقوم بتأدية خدمة، ويحق لي الاستفادة".
الخطر الأكبر في عملية نقل الأدوية من تركيا إلى لبنان يتمثل في أمرين:
مظاهرة لمرضى السرطان وأهاليهم وسط بيروت تندد بتخلي الحكومة عن دعمهم وتوفير الدواء، ٢٠٢١. فرانس برس
بعض الأدوية لأحد الزبائن في صيدلية بالعاصمة اللبنانية، بيروت. فرانس برس
صيدلي لبناني تحدثت معه بلينكس اشترط عدم الكشف عن هويته، يقول إن حُقن الإنسولين على أنواعها التي تأتي من تركيا إلى لبنان تحتاج إلى تبريدٍ جيد، على أن تكون الحرارة بين 4 و 8 درجات، مشيرا إلى أنه في حال لم تتحقق درجة البرودة المطلوبة، فإن الحقنة ستتعرض للتلف وعندها ستكون مؤذية للمريض، والأمر نفسه ينطبق على العديد من الأدوية بينها أدوية السرطان.
المصدر يقول إن هناك حقن أخرى قد تصبح جرعات للموت إن لم يتم تبريدها بشكل جيد، ومنها "ريزوديغ"، "نوفورابيد"، "موفوميكس" وغيرها.
يتحدث المصدر قائلاً أيضا إن عمليات نقل تلك الحقن وأدوية السرطان تتم بواسطة صناديق مليئة بـ"الثلج"، الأمر الذي قد لا يعتبر كفيلا بالحفاظ على جودتها.
بدوره، يقول نقيب الصيادلة جو سلوم لبلينكس إن الطريقة المذكورة لنقل الدواء تعد "وسيلة غير شرعية وغير جيدة"، ولا يمكن اعتمادها لنقل الأدوية والحقن، موضحا أن هناك معايير محددة يجب الالتزام بها، لكن هذا الأمر بعيد كل البعد عن "تجار حقائب الأدوية".
السفر الجوي بين لبنان وتركيا لا يحتاج إلى تأشيرة، ولهذا السبب تعد إمكانية الانتقال بين البلدين عبر المطارات سهلة، ومن دون عوائق.
سيدة داخل صيدلية وسط بيروت. فرانس برس
الأمر هذا يعد بمثابة "تسهيل" أساسي لأشخاص تحولوا إلى "تُجار" للأدوية بين لبنان وتركيا، فباتوا يأتون بكميات من تلك العقاقير عبر "شنط" السفر وعلى دفعات.
السؤال الأكثر طرحا هنا هو التالي: هل من ضوابط؟
مصدر أمني في مطار بيروت الدولي تحدث لبلينكس شرط عدم الكشف عن هويته، قائلا إن الكثير من المسافرين "المقتدرين" يمررون أدوية تركية عبر حقائبهم بذريعة الاستخدام الشخصي، علما أن الكميات تكون كبيرة نوعا ما، فيما الأصناف مختلفة.
يلفت المصدر إلى أن أغلب عمليات تمرير الأدوية لا يجري توقيفها، لكنها تخضع للتفتيش عبر "السكانر" وذلك لمعرفة ما إذا كانت هناك مخدرات أو ممنوعات مهربة ضمنها.
مصدر معني في وزارة الصحة اللبنانية قال لبلينكس إن تركيا تدعم الصناعة الدوائية بشكل مباشر، ولهذا السبب تكون أسعار الدواء فيها متدنية.
المصدر يقول إن الكثير من الأدوية المصنعة في تركيا ممنوعة من التصدير إلى الخارج، في حين أن إمكانية تهريب كميات من الأدوية عبر المطارات أو المعابر الشرعية التركية، ستؤدي بالمتورطين إلى المساءلة.
نقيب الصيادلة في لبنان جو سلوم قال لبلينكس إن قطاع إنتاج الأدوية في لبنان بات يستحوذ على 40% من الصناعة اللبنانية، ما يعد مؤشرا جيدا.
لكن في المقابل، قال سلوم إن الأدوية التركية ما زالت تدخل إلى لبنان بشكل عشوائي، كاشفا أن تلك الأدوية تسيطر على 45% من السوق المحلي، محذرا من أن هذه النسبة خطيرة وغير عادية.
سلوم أكد أن دور النقابة هو لجم الصيدليات غير الشرعية، إلا أنه ليس من صلاحياتها ضبط تهريب الأدوية التركية عبر المعابر الحدودية، واضعا المسؤولية في ذلك بعهدة القوى الأمنية اللبنانية.
هاني نصار، رئيس جمعية "بربارة نصار" لمكافحة مرض السرطان، يقول لبلينكس إن تجارة أدوية السرطان تفاقمت كثيرا، فبات هناك تجار يستغلون أوضاع المرضى لبيعهم أدوية مزورة بأسعار خيالية موازية لسعر الدواء الحقيقي
نصار أعطى مثالا فقال "دواء كايترودا للسرطان يباع في لبنان بـ5400 دولار، بينما في تركيا يصل سعره إلى 3000 دولار. هناك أشخاص يأتون بالدواء نفسه لبيعه بـ1600 دولار بينما هم حصلوا عليه بأقل من ذلك بكثير أو بنحو 600 دولار. النقطة الأساس هنا هو أن هذا الفارق بالسعر يثير الريبة، فيبادر تجار معينون إلى إختلاق ذريعة معينة لتبرير السعر المتدني للدواء الذي يتبين في غالب الأحيان أنه مزوّر".
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة