بالعقود والعملات المشفّرة.. بكين وموسكو تتحدّيان هيمنة واشنطن
في ظل تصاعد المواجهة الاقتصادية بين القوى الكبرى، تتقدّم الصين وروسيا نحو بناء منظومات مالية بديلة تقوّض النفوذ الأميركي القائم على السيطرة على شبكات التحويل المالي والدولار.
في الوقت الذي تفرض فيه واشنطن عقوبات قاسية على موسكو وطهران، نجحت بكين في إنشاء منظومة سرّية لتحويلات النفط، فيما ابتكرت روسيا عملة مشفّرة مدعومة من الكرملين تتيح لها التحايل على القيود المفروضة عليها.
هذه التحركات تكشف ملامح تحالف اقتصادي جديد يتحدّى المنظومة الغربية عبر "اقتصادٍ متمرّد" يعتمد العقود الثنائية، والبلوكتشين، والعملات البديلة كأدوات سيادية.
روسيا وبناء اقتصاد العملات الموازية
في مواجهة عزلها عن النظام المالي الغربي بعد غزو أوكرانيا، طوّرت موسكو عملة رقمية مدعومة رسمياً تُعرف باسم A7A5، وهي جزء من منظومة مدفوعات عابرة للحدود تُعرف باسم A7.
هذا المشروع، الذي تديره مؤسسات خاضعة للكرملين مثل بنك برومسفيزبنك، تمكّن من تحريك ما لا يقلّ عن 6 مليارات دولار منذ أغسطس 2025 رغم إدراج بعض كياناته على قوائم العقوبات الأميركية، وفقاً لتقرير لصحيفة
فاينانشال تايمز.
ويشرح التقرير أنّ مطوّري العملة استخدموا تقنية دقيقة تقوم على "تدمير الأموال الملوّثة" في المحافظ الخاضعة للعقوبات ثم إعادة إصدارها في محافظ جديدة، ما يمنحها "صفحة نظيفة" ويصعّب تتبّعها.
ويتم دعم كل وحدة من هذه العملة بالروبل الروسي، وتستخدم رسمياً في عمليات التبادل التجاري عبر منصة مملوكة لبنك الدفاع الروسي، ما يجعلها قناة مالية موازية تعيد لموسكو جزءاً من قدرتها على تصريف صادراتها واستيراد السلع الحيوية.
وتُشير فاينانشال تايمز إلى أنّ الشبكة تموَّل جزئياً من قروض صادرة عن بنك التنمية الروسي، VEB، وتوسّعت إلى أسواق أفريقيا، في خطوة تهدف إلى خلق منظومة مدفوعات بديلة تقلّص هيمنة الدولار، وتفتح لموسكو مجالاً لتصدير نموذجها المالي إلى دول تعتبرها "صديقة". ويُعدّ هذا التحوّل جزءاً من مشروع أوسع لتأسيس اقتصاد موازٍ يعتمد التكنولوجيا والتمويل اللامركزي كبديل للبنية الغربية التقليدية.
الصين والالتفاف على العقوبات عبر النفط والمشروعات
على الجانب الآخر، تسير بكين في مسار موازٍ قوامه التجارة بالموارد والعقود طويلة الأمد. فبحسب تقرير لموقع MoneyControl نقلاً عن
وول ستريت جورنال، وضعت الصين منظومة سرّية لشراء النفط الإيراني تعتمد مقايضة النفط بالبنى التحتية.
ومن خلال مؤسسات حكومية وشركة مالية غامضة تُدعى Chuxin، يتم تحويل عائدات النفط إلى شركات صينية تنفّذ مشاريع داخل إيران بدلاً من تمريرها عبر النظام المصرفي الدولي الخاضع للعقوبات الأميركية.
ويقدّر التقرير أنّ هذه الآلية، التي تمثل شكلاً حديثاً من "النفط مقابل المشاريع"، بلغت قيمتها نحو 8.4 مليارات دولار في عام 2024 وحده، حيث جرى تمويل مشاريع بنية تحتية كالمطارات والمصافي والطاقة داخل إيران.
كما أنّ النفط الإيراني يُنقل إلى الصين عبر عمليات بحرية معقّدة تشمل تبديل الشحنات في عرض البحر وخلطها بأنواع أخرى من النفط، ما يسمح لبكين بالحصول على خامٍ منخفض الكلفة مع الحفاظ على مظهر الالتزام بالعقوبات.
وتؤكد وول ستريت جورنال أنّ هذه المنظومة تستند إلى اتفاق شراكة إستراتيجية وُقّع عام 2021 بين بكين وطهران لمدة 25 عاماً، التزمت فيه الصين باستثمارات بعشرات المليارات في مشاريع إيرانية.
الاقتصاد الرمادي.. عندما تتقاطع استراتيجيات موسكو وبكين
ما يجمع بين التجربتين الروسية والصينية هو إعادة تعريف النظام المالي العالمي من خارج المنظومة الغربية. فبينما تراهن موسكو على العملات المشفّرة لتأسيس "نظام سيولة بديل"، تعتمد بكين على الاقتصاد المادي الموازي من خلال المقايضة والمشروعات الثنائية. وفي الحالتين، يتم تهميش الدولار وإضعاف أدوات الردع الأميركية التي ترتكز على السيطرة على التحويلات والمصارف.
يشير التقاطع بين هذين النموذجين، الرقمي الروسي والميداني الصيني، إلى ولادة تحالف اقتصادي متمرّد يربط بين التكنولوجيا والطاقة، ويمهّد لظهور منظومات دفع جديدة قائمة على الثقة الثنائية بدلاً من النظام الغربي المركزي.
ويكفي أن روسيا منحت عملتها الرقمية وضعاً قانونياً رسمياً كـ "أصل مالي رقمي"، في الوقت الذي تُحوّل فيه الصين عائدات النفط إلى مشاريع البنية التحتية، ليتّضح أنّ كلا البلدين يستخدمان التكنولوجيا والعقود الاستراتيجية لتقويض النفوذ الأميركي في مجالي المال والطاقة.