مثلث حدودي.. اقتصاد الظل الذي غذى حزب الله من أميركا اللاتينية
في مساء 19 يوليو 1994، كانت طائرة الركاب البنميّة الرحلة 901 قد بدأت رحلتها القصيرة بين مطارين داخل بنما، ولم تمض سوى دقائق على الإقلاع من مطار كولون حتى انفجرت وهي تحلق في السماء، مخلفة 21 قتيلا معظمهم من أبناء الجالية اليهودية لهذه الدولة الواقعة بأميركا الوسطى، في أسوأ حادث طيران يعرفه تاريخ البلاد، حسب وصف فرانس برس.
وبعد مرور أكثر من 30 عاما من الغموض، عاد الملف، في الأحد 9 نوفمبر 2025، إلى الواجهة عندما أعلنت بنما أنّ فنزويلا اعتقلت على أراضيها المواطن الفنزويلي المشتبه به الرئيسي في التفجير.
وأكد مكتب الإنتربول في كراكاس لنظيره البنمي أنّ عملية التوقيف جرت في 6 نوفمبر داخل جزيرة مارغريتا بولاية نويفا إسبارا، مضيفا أنّ إجراءات تسليمه إلى بنما لا تزال جارية.
سارعت وزارة الخارجية البنمية إلى الإعلان عن بدء "إجراءات دبلوماسية وقانونية" لتقديم المشتبه به للعدالة، معبرة عن قلقها إزاء "وجود شخص مرتبط بشكل واضح بالهجوم على الرحلة 901 داخل فنزويلا طوال هذه السنوات دون مساءلة".
ويعيد هذا التطور فتح ملف ظل مغلقا لسنوات، رغم أنّ الولايات المتحدة كانت قد عرضت في أكتوبر 2014
مكافأة قدرها 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات حول التفجير، الذي ربطته واشنطن بمحاولة هجوم نفذه عناصر من حزب الله اللبناني. وفي عام 2018، أعيد تنشيط التحقيق بعد أن أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرئيس البنمي آنذاك خوان كارلوس فاريلا بأنّ استخبارات بلاده خلصت إلى أنّ التفجير كان "هجوما منسقا" يُرجح أن حزب الله يقف خلفه.
ومع إعادة فتح التحقيق، تكاثرت الأسئلة الكبرى: من يقف فعلا وراء التفجير؟ وكيف تشعبت خيوط القضية عبر دول متعددة في أميركا اللاتينية؟
علي زكي حاج جليل.. عبر الحدود ثم اختفى
في 6 نوفمبر 2025، أعلنت السلطات البنمية أنّ فنزويلا أوقفت المشتبه به الرئيسي في تفجير الرحلة 901 علي زكي حاج جليل، الذي كان مدرجا منذ سنوات على "النشرة الحمراء" للإنتربول بطلب من النيابة العليا البنمية بتهم القتل العمد والاعتداء على الأمن العام والجرائم ضد وسائل النقل والاتصال.
وتشير تقارير صادرة عن
The Investigative Project on Terrorism أن المتهم شوهد في موقع تحطم الطائرة يوم الحادث واليوم التالي، وأنّ السلطات البنمية اعتقلته بعد 5 أشهر من التفجير وبحوزته 16 رشاش Mini Mac 9mm، وصواعق تفجير، وحبل تفجير عسكري مطابق للنوع المستخدم في العملية، إضافة إلى شهادة إيداع مصرفية بقيمة 500 ألف دولار.
كما نقلت إفادات شهود، وردت في محاضر التحقيق البنمي، أنّه كان يستخدم أجهزة اتصال لاسلكي مماثلة لتلك التي عثر عليها قرب بقايا منفذ الهجوم. ورغم هذه الأدلة، أُطلق سراحه وغادر بنما، لينتقل بين كولومبيا وفنزويلا، ويتمكن من الحصول على هوية بنمية مزورة وجوازات سفر متعددة، بحسب ما أكدت تقارير صحفية في
Infobae و
Panamá América.
وتشير هذه الصحف أيضا إلى أنّ علي حاج جليل يُعتقد أنه يحمل معلومات حساسة حول اللحظات الأخيرة داخل الطائرة، وحول الخيوط التي تربط التفجير بشبكات حزب الله العاملة في أميركا اللاتينية.
تشير وثائق وتحقيقات دولية، منها تقرير
RAND، إلى أنّ فنزويلا، منذ عهد هوغو تشافيز وصولاً إلى نيكولاس مادورو، وفرت بيئة حاضنة للحزب، عبر دعم سياسي ولوجستي واقتصادي.
وتلعب شخصيات فنزويلية نافذة مثل فوزي كنان والدبلوماسي غازي نصر الدين أدوارا مركزية في توفير غطاء دبلوماسي وتمويل وتسهيل التدريب الأيديولوجي. كما يستخدم الحزب شركة الطيران الوطنية CONVIASA لنقل عناصره وبضائعه بعيدا عن أعين الرقابة.
وتضيف تحليلات
معهد المشروع الأميركي، AEI، أنّ الوجود اللبناني الشيعي الكبير في فنزويلا، المتجذر منذ بدايات القرن العشرين، خلق بيئة اجتماعية واقتصادية مثالية لاستثمارها في توسيع شبكات الحزب. وتعد جزيرة مارغريتا، حيث جرى توقيف حاج جليل، إحدى أبرز "النقاط السوداء" التي يستفيد منها الحزب للتخزين وإدارة التهريب وإنشاء خطوط إمداد سرّية.
شبكة المثلث الحدودي.. اقتصاد ظلّ عابر للقارات
بين البرازيل وباراغواي والأرجنتين، يُعرف "المثلث الحدودي" بأنه من أخطر المناطق في العالم من حيث تغلغل الجريمة المنظمة، وفق تقرير
مكتبة الكونغرس الأميركية. وتشير التقارير إلى أن حزب الله حوّل هذه المنطقة إلى مركز مالي وعملياتي متكامل يقوده أفراد مثل:
- أسعد أحمد بركات، المتورط في تفجير الجمعية الإسرائيلية الأرجنتينية
- صبحي محمود فياض، تلقى تدريبا عسكريا في لبنان
- علي حسن عبد الله، مسؤول عن تحويلات مالية لدعم مجموعات متطرفة
تُظهر التحقيقات تهريب كوكايين بكميات تتراوح بين 400 و1000 كيلوغرام شهريا، إلى جانب تحويلات مالية ضخمة إلى لبنان. وتشير وثائق مصادرة إلى أنّ فياض كان يرسل تحويلات "كبيرة" إلى بنوك لبنانية بشكل شبه يومي منذ 1992 دون دفع ضرائب. أما عبد الله فاعتمد بعد 2001 على تحويلات إلكترونية لدعم جماعات متطرفة من خلال أقاربه في سيوداد ديل إيستي.
بحسب تقارير
RAND و
مركز ويلسون و
معهد المشروع الأميركي، لم يعد وجود حزب الله في أميركا اللاتينية مقتصرا على جمع الأموال. بل أصبحت شبكة عابرة للقارات، تعمل في ما لا يقل عن 12 دولة، وتضم عناصر مباشرة، ومتعاطفين أيديولوجيين، وشركاء جنائيين.
عمل الحزب قبل عقود في تنفيذ هجمات كبرى مثل تفجير السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس عام 1992، أسفرت عن 22 قتيلا، 242 جريحا بحسب
مركز ويلسون، وتفجير AMIA عام 1994، مسفرا عن 85 قتيلا.
وفي نوفمبر 2023، أحبطت الشرطة البرازيلية خلية مرتبطة بالحزب كانت تخطط لاستهداف مواقع يهودية، بحوزة قائمتهم "هدف" للمعابد والسفارات الإسرائيلية.
الاقتصاد غير الشرعي.. مخدرات وذهب وغسيل أموال
ومع تصاعد القيود على التمويل الإيراني، اتجه التنظيم إلى تنشيط شبكات المخدرات في أميركا اللاتينية، وحتى تبني تقنيات تهريب مبتكرة مثل "فحم الكوكايين"، وهي تقنية مزج الكوكايين بالفحم ثم استخلاصه لاحقا. ويحذر التقرير من أنّ الأسلوب ذاته يمكن استخدامه لتهريب متفجرات.
بحسب التقرير، كانت شبكة الممول ومهرب المخدرات أيمن جمعة بغسل ما يصل إلى 200 مليون دولار شهريا عبر تهريب الأموال نقدا بكميات كبيرة، واستخدام شركات صرافة لبنانية ومصارف مرتبطة بحزب الله. وقد ذهب جزء من الأرباح الناتجة عن غسل هذه الأموال إلى حزب الله.
خارطة العمليات.. الدول التي طالتها يد الحزب
من خلال الجمع بين المعطيات من تقارير RAND ومركز ويلسون ومعهد المشروع الأميركي، يظهر أنّ نشاط الحزب يمتد عبر:
- الأرجنتين: تفجير 1992 و1994
- بانما: تفجير الطائرة 1994 وعمليات استطلاع
- بيرو: اعتقالات 2014 و2024
- كولومبيا: شبكات تهريب بقيادة "طالبان"
- فنزويلا: شبكات سياسية/اقتصادية رسمية
- البرازيل: خلية 2023
- كوراساو، المكسيك، بوليفيا، تشيلي: شبكات تهريب واستطلاع
الجناح الخارجي لحزب الله الذي لا تطاله الضغوط
ليست قصة علي زكي حاج جليل مجرد ملف جنائي، بل نافذة على الامتداد العملياتي للحزب في القارة. فمن تفجير الطائرة في بنما، إلى شبكات الذهب والمخدرات في فنزويلا، إلى التخطيط في البرازيل، إلى غسيل الأموال في كولومبيا، يتضح أنّ الحزب بنى منظومة تتحرك بحرية في فضاءات تنتج فيها الجريمة المنظمة غطاء مثاليا لنشاطه.
وبحسب تقارير RAND ومركز ويلسون، فإنّ الحزب لم يعد يعتمد على الشرق الأوسط وحده، بل يمتلك الآن "حديقة خلفية" في أميركا اللاتينية توفر له التمويل والملاذ والغطاء.
وتؤكد
تقارير أن إضعاف الحزب داخل لبنان لا يحسم سوى "نصف المعركة"، فشبكاته الخارجية تواصل التمويل والتجنيد والتخطيط بعيداً عن أي ضغط يذكر.