لم تعد البيوتكنولوجيا مجرد مفهوم نظري أو خيال علمي في ساحات القتال، بل أصبحت واقعًا ملموسًا يُعيد تشكيل موازين القوى العسكرية في العالم.
كشف تقرير حديث نشره موقع Grey Dynamics إلى أنّ أدوات مثل التعديل الجيني، والبيولوجيا التركيبية، والكائنات الحية المصممة، والمواد المشتقة بيولوجيًا بدأت تشق طريقها إلى الاستخدام العملي في المعارك، بعد أن كانت في السابق مجرّد أفكار مستقبلية.
وعلى الرغم من أن هذه التقنيات قد تفتح آفاقًا جديدة في مجالات أخرى، مثل العناية بالإصابات، فإنها في ذات الوقت تثير مخاوف متزايدة بشأن استخدامها في تعزيز قدرات الجنود، أو تطوير مسببات أمراض مصممة خصيصًا كأدوات حرب بيولوجية.
وفي طليعة الدول التي تقود هذا التحوّل، تتصدّر الصين المشهد بفضل استثمارات ضخمة واستراتيجية دمج مدني-عسكري تسمح بتسريع تطوير وتطبيق هذه التقنيات على نطاق واسع. كما تستثمر الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي، والمملكة المتحدة في برامج مزدوجة الاستخدام تسعى إلى توظيف الابتكار البيولوجي في الدفاع والهجوم معًا. وفي المقابل، يُعتقد أن دولاً مثل روسيا وكوريا الشمالية تتابع هذا السباق من زاوية أخرى، تركّز فيها على برامج تسلّح بيولوجي سرية تُثير قلقًا متزايدًا في الأوساط الأمنية الغربية.
اعرف أكثر
أفاد تقرير صادر عن المجلس الاستشاري للأمن الدولي التابع لوزارة الخارجية الأميركية بأن الصين برزت في السنوات الأخيرة كمنافس قوي في ميدان التكنولوجيا الحيوية، مدفوعةً باستثمارات ضخمة وسياسة اندماج وثيق بين المؤسسات المدنية والعسكرية.
وبينما تُروّج بكين لاستخدام هذه التقنيات لأغراض طبية ووقائية، تُحذّر دراسة صادرة عن معهد ماكس بلانك من أن تلك الأبحاث قد تُمهّد لتطبيقات مستقبلية مثيرة للجدل، من بينها تعزيز القدرات الذهنية والجسدية للبشر.
ووفقاً لتقرير نشره موقع أكسيوس في أبريل 2025، فإن هذه التطبيقات قد تشمل دروعًا جسدية متطورة، تمويهًا ديناميكيًا، أغذية مصنّعة في ساحات القتال، جنودًا معدّلين وراثيًا، بكتيريا كاشفة للألغام، ومواد مبرمجة للإضرار بالعدو. ويحذّر التقرير من أن "الحزب الشيوعي الصيني قد يستخدم هذه التقنيات كأسلحة"، مشيرًا إلى أن اليوم الذي تُظهر فيه قوات التحرير الشعبية جنودًا محسّنين وراثيًا قد يجعل "الطائرات المسيّرة تبدو تكنولوجيا قديمة".
وفي ضوء ذلك، تؤكد الخارجية الأميركية أن المزج بين التقدم الحيوي والأهداف العسكرية في الصين يمثل تهديدًا متصاعدًا للأمن التكنولوجي العالمي، لاسيما في ظل العمل على تطوير كائنات دقيقة أو فيروسات مصممة بدقة لإحداث تأثيرات بيولوجية موجهة ضد الخصوم.
أظهر تقرير لجنة الأمن القومي للتكنولوجيا الحيوية (NSCEB) أن الولايات المتحدة تتراجع أمام الصين في سباق السيطرة على هذا القطاع الحيوي. فبينما تُنفّذ بكين استراتيجية منسقة تمزج بين التمويل الحكومي الهائل، والاستثمار في الذكاء الاصطناعي، والاستحواذ على شركات أميركية للحصول على ملكيتها الفكرية، تفتقر الولايات المتحدة إلى استراتيجية فدرالية واضحة، وتعاني من ضعف في التنسيق المؤسساتي وتراجع في تمويل الأبحاث الأساسية، مما يقلل قدرتها على ترجمة الاكتشافات العلمية إلى تطبيقات عملية على نطاق واسع.
تُظهر المملكة المتحدة اهتمامًا متزايدًا بتعزيز استثماراتهما في قطاع التكنولوجيا الحيوية، لا سيما في ظل التقدّم السريع الذي تحقّقه الصين في هذا المجال. وتناقش مع الولايات المتحدة سبل توسيع التعاون الثنائي في مجالات جمع البيانات البيولوجية، وتسريع نقل الأبحاث إلى تطبيقات عملية ذات طابع دفاعي وتجاري.
أما الناتو، فيعمل على دمج التكنولوجيا الحيوية في استراتيجيته الدفاعية عبر دعم أبحاث الطب العسكري والكشف المبكر عن التهديدات البيولوجية، معتبرًا هذا المجال عنصرًا أساسيًا لتعزيز قدرات قواته ومواكبة التطورات التكنولوجية المستقبلية.
ووفقًا لما أورده تقرير لمجلة Joint Force Quarterly التابعة لدار نشر جامعة الدفاع الوطني، فإن روسيا، بفضل إرث الاتحاد السوفياتي في مجال الأسلحة البيولوجية، لا تزال تحتفظ بمعرفة عميقة في هذا المجال، مع احتمال إعادة توجيه هذه المعرفة نحو تطوير جيل جديد من الأسلحة البيولوجية المعدّلة وراثيًا. أما كوريا الشمالية، فترتكز على شبكات البحث السري وتبادل المعلومات مع جهات غير رسمية لتطوير قدرات يصعب رصدها.
يشير تقرير نشرته لجنة الأمن القومي للتكنولوجيا الحيوية إلى غياب أطر تنظيمية دولية تحكم استخدام البيوتكنولوجيا في الميدان العسكري. فعلى الرغم من اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972، فإن التقنيات الحديثة خلقت ثغرات قانونية تمكّن الدول من التحرك في مناطق رمادية يصعب ضبطها.
كما أن الجانب الأخلاقي لا يقل خطورة. فالتلاعب بجينات الجنود، أو تصميم فيروسات تستهدف مجموعات سكانية محددة وراثيًا، يطرح أسئلة وجودية حول الحدود المقبولة لاستخدام التكنولوجيا في الحروب. ويخشى خبراء أن يؤدي تجاهل هذه الأسئلة إلى سباق تسلح بيولوجي جديد قد يكون أكثر فتكًا من سباق الأسلحة النووية.
تكشف البيوتكنولوجيا العسكرية عن وجه جديد للحروب الحديثة، وجه لا يعتمد فقط على السلاح والنار، بل على الشيفرة الوراثية والخلايا الحية. ومع بروز قوى كبرى مثل الصين، وصمت غربي متردد، فإن مستقبل المعارك قد يشهد تحوّلًا جذريًا نحو ما يمكن وصفه بـ"حروب الجينات".