أصبع على الزناد.. معسكران مسلحان يهددان سوريا والفرات خط نار
تحوّل نهر الفرات إلى جبهة ملتهبة تختصر صراع سوريا الجديد. على ضفتيه يقف أكبر معسكرين مسلحين في البلاد، في مواجهة رؤيتين متناقضتين لمستقبلها: غرباً قوات الحكومة الجديدة في دمشق، وشرقاً قوات الإدارة الذاتية الكردية التي تتمسك بمكاسبها العسكرية والسياسية.
في صيف هذا العام، جاب فريق من مراسلي رويترز أكثر من 1800 كيلومتر على طول هذا الخط الفاصل، متنقلاً بين مراكز استراتيجية ومقابلاً قادة عسكريين ومدنيين ونازحين. المشهد الذي خرجوا به: حدود سائبة تحكمها الميليشيات، أحقاد محلية تعقّد جهود التوحيد، ومقاتلون على أهبة الاستعداد للقتل دفاعاً عن بضعة أمتار من الأرض.
في دير الزور، حيث لا يفصل المعسكرين سوى جسر ترابي ضيق، لا تزيد المسافة بين القوات المتقابلة عن 200 متر. أوامر متبادلة بإغلاق المعبر، اشتباكات متقطعة بالرصاص عبر النهر، وجنود متحفزون بأصابع على الزناد.
أحمد الحايس، قائد في الجيش السوري، يرى في الشرق أرضه المسلوبة: "في دمشق يتحدثون عن التحرير، أما هنا فما زلنا تحت الاحتلال".
في المقابل، تؤكد القائدة الكردية سوزدار ديريك: "لن نهاجم، لكننا سندافع، نحن جاهزون للحرب".
منذ إطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، برز معسكران رئيسيان:
- غرب الفرات: تسيطر الفصائل السابقة على معظم الأراضي والمدن الكبرى والساحل، والتي تشكل الآن العمود الفقري للجيش السوري.
- شرق الفرات: تسيطر القوات الكردية على ثلث البلاد تقريباً، بما فيه السدود ومناطق النفط، وتدير إدارة ذاتية بدعم وتدريب أميركي، لكنها تخشى تخلي واشنطن عنها.
محادثات توحيد الجيش الجارية في دمشق منذ توقيع اتفاق مبدئي في مارس تواجه عراقيل، فيما التصعيد على الأرض يوحي إما بتقسيم طويل الأمد أو مواجهة شاملة، ما يبدّد آمال السوريين بمرحلة استقرار مقبلة.
الجبهة الشمالية: المواجهة عند السد
بدأ فريق المراسلين رحلته صعوداً مع مجرى الفرات، حيث أعاد سقوط الأسد إشعال حربٍ خامدة داخل الحرب السورية، لتتخذ شكل جمود هشّ حول سد متصدع على النهر.
النهر الذي غذّى حضارات قديمة بات اليوم يوفّر المياه والكهرباء لتركيا وسوريا والعراق، ما يجعل السيطرة عليه ورقة ضغط إقليمية بالغة الأهمية.
فبينما كان مقاتلون بقيادة الرئيس الجديد أحمد الشرع يقتحمون دمشق في ديسمبر الماضي، كانت فصائل مدعومة من تركيا، تحت قيادة منفصلة، تخوض معارك مع القوات الكردية في شمال سوريا. هذه الفصائل دفعت الأكراد للتراجع من أراضٍ كانوا يسيطرون عليها غرب الفرات، بما في ذلك قرب حلب، لمسافة 100 كيلومتر حتى سد تشرين.
ومنذ ذلك الحين، تقول السلطات الكردية إن 418 من مقاتليها و57 مدنياً، إضافة إلى ثلاثة صحفيين، قُتلوا في الاشتباكات، معظمهم في الأسابيع الأولى من الفوضى.
وزار المراسلون الجيوب السابقة التي كان الأكراد يسيطرون عليها قبل أن يتوجهوا شرقاً نحو الفرات، متتبعين خط انسحابهم. وكانت محطتهم الأولى قاعدةً لقائد عربي مدعوم من تركيا، هو معتصم عباس، الذي قاد الهجوم.
قال عباس عن القوات الكردية: "لم يبدوا مقاومة تُذكر".
ويقود عباس نحو ألفي مقاتل ينتشرون من بلدته مارع قرب حلب وصولاً إلى الفرات. وفي الربيع رُقّي إلى قائد لواء في "الفرقة 80" الجديدة بالجيش السوري، ما وضعه رسمياً على رأس هذا القطاع الشمالي من الجبهة مع الأكراد.
ورغم الهدنة الهشّة حول السد، يؤكد أن القوات الكردية تواصل إرسال طائرات مسيرة للتجسس على قواته أو مهاجمتها. أما الأكراد فيقولون إنهم يردون فقط على اعتداءات من جانب قوات الحكومة.
وعباس يحمل ثأراً شخصياً أيضاً: فقد قُتل ابن عمه الثاني برصاص الأكراد الشهر الماضي. يقول: "أُطلق عليه النار من الخلف… نحن نرسل المزيد من الرجال والسلاح لتعزيز جبهتنا".
لكن الأكراد نفوا علاقتهم بالحادثة، مشيرين إلى خلاف داخلي بين فصائل الحكومة.
يتمركز عباس في مجمع يضم مبان منخفضة محاطة بآليات مدرعة وشاحنات مزودة برشاشات، ومغطاة بشبك معدني للحماية من الطائرات المسيّرة. يتنقل في سيارات مصفحة ترافقه حراسة مشددة.
التوترات العرقية داخل تركيا انسحبت منذ سنوات على شمال سوريا، مع هدف تركي معلن يتمثل في إبعاد المقاتلين الأكراد عن الحدود. فالقوات الكردية السورية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، الذي خاضت أنقرة ضده حرباً طويلة داخل أراضيها.
ويقول عباس إن "القضية الكردية" هي التحدي الأكبر الذي يواجه سوريا.
على الطريق بين قواته وقوات الأكراد تمتد مساحات واسعة من الريف تكاد تخلو من الحواجز العسكرية. قرب البلدة التي قُتل فيها ابن عمه، كان مسلحون بلا شارات يفرضون إتاوات على السائقين مقابل المرور الآمن.
عند سد تشرين، أكد القائد الكردي هناك، خليل قهرمان، أن قواته تعرضت لقصف ست مرات من الفصائل المدعومة من تركيا. قال: "آخر هجوم ضدنا كان قبل أسبوع، قصف مدفعي"، مشيراً إلى استمرار تبادل إطلاق النار، بما في ذلك غارات تركية جديدة حول السد.
يقول مهندسون إن السد يزوّد بلدات قريبة بالكهرباء، لكنه قادر، إذا أُصلح وجرت تسوية بين الأطراف، على تغذية مدن سورية غرباً وشرقاً. غير أن إصلاحه يتطلب تدفقاً منتظماً من مياه تركيا وقطع غيار أجنبية لمعالجة أعطاله.
قهرمان وهو مقاتل مخضرم ما زال يتألم من انسحابه القسري أمام عباس وفصائل تركيا. وهو أيضاً قلق من خطط انسحاب القوات الأميركية التي دعمته لأكثر من عقد ضد تنظيم داعش.
لكن قهرمان يقول إن قواته ستقاتل بمفردها إن لزم الأمر: "اكتسبنا خبرة ضد داعش، والآن نطور تكتيكات جديدة ضد هذه الفصائل. نحن مستعدون لكل الاحتمالات".
ويضيف أن سلاحهم الجديد هو الطائرات المسيّرة التي استخدمت لأول مرة في ديسمبر وأوقفت تقدم الفصائل المدعومة من تركيا عند السد، بمساعدة من التحالف الدولي.
وفي الوقت نفسه، يواصل الأكراد تعزيز دفاعاتهم بالوسائل التقليدية. في التلال المحيطة بالسد، يتردد صوت المعاول حيث تُحفر شبكة أنفاق عميقة تمتد 30 متراً تحت الأرض وتتفرع كل 100 متر تقريباً.
على بعد نحو 300 كيلومتر إلى أسفل النهر في دير الزور، ينظر قائد الجيش السوري أحمد الحايس، المعروف باسم أبو حاتم شقرة، عبر الفرات إلى قريته الأم، وهو يحمل ثأراً قديمًا.
يقول الحايس جالساً بين مقاتلين ملتحين في قاعة ضباط كانت تابعة سابقاً لجيش الأسد: "الرئيس الشرع كان دائمًا يركز على دمشق، أما أنا فتركيزي على أرضي التي يحتلها الأكراد. سأقاتل مئة مرة أقوى من أجلها".
تقع دير الزور عند الطرف الجنوبي الشرقي من الانقسام على طول الفرات، في أبعد نطاق تحت سيطرة دمشق. يفصلها عن العاصمة نحو 500 كيلومتر من صحراء قليلة السكان استغلتها داعش لفترة طويلة، فيما تبدو شوارع المدينة المدمرة نصف خاوية بعد سنوات الحرب، دون أن يبدأ إعادة الإعمار.
منذ سقوط الأسد، انقسمت دير الزور على طول الفرات إلى مناطق يسيطر عليها رجال الحايس وأخرى تخضع للقوات الكردية. 
وفي مايو، عينت الحكومة في دمشق الحايس لقيادة الفرقة 86 في الجيش السوري الجديد، ما وضعه على رأس قطاع يمتد 150 كيلومتراً على طول الفرات، من خارج الرقة، عاصمة داعش السابقة، حتى دير الزور.
يعتبر الحايس ومؤيدوه، إضافة إلى الحكومة التركية، أن مناطق ريف الرقة ودير الزور الشرقية لم يكن يجب أن تخضع أبداً للسيطرة الكردية.
قاتل المسلحون الأكراد وقوات الأسد في بداية الحرب، ثم تجنبوا الصدام المباشر، ما أتاح للأكراد إنشاء شكل من الحكم الذاتي. لاحقاً، جعلت الولايات المتحدة القوات الكردية وكيلها الرئيسي في مواجهة داعش.
ومع تراجع التنظيم بعد 2017، استولت القوات الكردية على أراضٍ كانت تحت سيطرة المتشددين على طول الفرات، ما دفع تركيا لشن غزوات شارك فيها الحايس.
أثارت تعيين الحايس غضب الأكراد، لأنه ضمّ مقاتلين سابقين في داعش إلى صفوفه، ووجهوا إليه اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان، بما في ذلك ضد الأكراد.
نفى الحايس ارتكاب أي انتهاكات لحقوق الإنسان، وقال إنه لا يقلق من غضب الغرب على هذه المزاعم أو من فقدان منصبه: "كيف يمكن للشرع أن يسلبني ذلك؟ نحن منحناه سلطته بالتصويت له رئيساً"، وفق تصريح له قبل قرار وزارة الدفاع بمنع المسؤولين العسكريين من التحدث للإعلام.
يخطط الحايس لإضعاف القوات الكردية القريبة، معتبراً أنه يمكنه تشجيع الانشقاقات بين صفوف العرب فيها، وهي استراتيجية نجحت معه في الماضي. ويقول: "أنا أراقب وأستمع. لدي رجالي في أراضيهم".
على الضفة المقابلة، تتخذ القوات الكردية كل الاحتياطات.
في ضواحي الرقة، يتم حفر أنفاق جديدة ونقل مقطورات خرسانية جاهزة نحو المدينة. مقر الإدارة المحلية يقع داخل مجمع محاط بجدران واقية، مطلّة على النهر وكل القوات القادمة من دمشق.
وفي مقر القيادة الكردية، تقول القائدة سوزدار ديريك، المسؤولة عن وحدة النساء، إن تعيين الحايس ورفاقه المدعومين من تركيا في مناصب عسكرية رفيعة كان استفزازاً من الحكومة الجديدة: "هناك عقوبات على هؤلاء الأشخاص. يجب محاكمتهم في المحاكم الدولية"، وأضافت أن هذا التعيين يرسل رسالة بأن الحكومة السورية الجديدة تنوي الاستيلاء على دير الزور والرقة والحسكة من القوات الكردية.
تحمل ديريك ذكريات مؤلمة عن معارك مع رجال الحايس، الذين استولوا على أراضٍ كردية في غزو عام 2019، آخر مرة أمر فيها الرئيس الأميركي السابق ترامب بانسحاب كبير من سوريا.
تعوّل ديريك على الطائرات المسيّرة والأنفاق لإيقاف تقدم الحايس وقواته. رغم التراجع الكردي، قالت إن الطائرات المسيّرة التي استخدمت في ديسمبر كانت اختباراً جيداً ضد القوات المدعومة من تركيا ونجحت في تجاوز تشويش الرادارات: "لقد كانت كابوساً للعدو"، ابتسمت قائلة.
بعيداً عن خطوط التماس، تواجه السياسية الكردية فوزة يوسف والمسؤول الحكومي في دمشق مسعود بطّال بعضهما عبر طاولة المفاوضات.
والمهمة: جمع القادة العسكريين المختلفين تحت قيادة موحدة ودمج الإدارة الكردية ضمن الحكومة السورية في دمشق.
ويتعرض الطرفان لضغط كبير من الولايات المتحدة، التي تدعو إلى وحدة سوريا.
وقال مسؤول بوزارة الخارجية الأميركية في تصريح لرويترز: "الولايات المتحدة مهتمة بمسار سلمي ومزدهر ومستقر لسوريا. هذا لن يتحقق دون وحدة سوريا".
وفي إحاطة صحفية هذا الأسبوع مع رويترز ومراسلين آخرين، أكد الرئيس الشرع أنه لا يوجد بديل لسوريا: "لا يمكن أن يكون هناك مجال لفرص تقسيمنا الآن".
لكن يوسف وبطّال وفريقاهما يحملون رؤى متعارضة لمستقبل بلادهم.
يدير بطّال منطقة قرب حلب، محاطة بقواعد تركية، حيث ترفرف أعلام تركيا الكبيرة بجانب مبنى البلدية المحلي. وقال زميل له إن تركيا، حتى يونيو الماضي، كانت لا تزال تدفع رواتب العديد من المسؤولين المحليين.
تخضع المنطقة لشرطة مسلحين بملامح صوفية طويلة اللحى، الذين يرون أن المنطقة التي يديرها الأكراد مشروع انفصالي يرفض التخلي عن حقول النفط السورية، ويستغل تهديد عودة داعش كورقة ضغط للحفاظ على الدعم الأميركي. بينما تحتفظ القوات الكردية بمعظم مقاتلي وعائلات داعش الذين تم القبض عليهم عند انهيار التنظيم، وترغب الإدارة الأميركية الجديدة أن تتحمل الحكومة السورية الجديدة هذا العبء.
يحمل بطّال ضغينة شخصية ضد القوات الكردية، ويقول :"سجنوني في 2013 وحاولوا إجباري على الانضمام للقتال"، ونفت قوات سوريا الديمقراطية أن يكون بطّال قد تم اعتقاله.
المنطقة التي يديرها، أغلب سكانها أكراد (عفرين)، كانت بؤرة للتوترات العرقية منذ طرد القوات المدعومة من تركيا للجنود الأكراد عام 2018.
أما يوسف، وهي امرأة كردية، فتقيم في الجزء الكردي من سوريا وتؤمن بقوة بالمساواة بين النساء والأقليات.
وترى هي وزملاؤها أن حكام دمشق قريبون من تركيا، وغير جادين في مكافحة داعش. تقول يوسف: "في دمشق، انتهت الثورة. هنا لم تنتهِ بعد. علينا تأمين هذه الحقوق".
في المراكز الحضرية المتضررة على جانبي الانقسام، لا يعرف السوريون إن كانوا أكثر أماناً مع الحكومة أم مع الأكراد.
هرب بعض العلويين من غرب سوريا إلى مناطق تحت سيطرة الأكراد بعد عمليات القتل في مارس. كما قدم السياسيون الأكراد الدعم للمدنيين الدروز خلال اشتباكات مع قوات قبلية وحكومية في يوليو.
لكن آخرين بدأوا يشعرون بالاستياء من حكم الإدارة الكردية.
تقول مريم، إحدى سكان الرقة التي تساعد في إدارة مجموعة حقوقية محلية: "السلطات هنا تعتقل الأبرياء باسم الأمن، وتستغل تهديد داعش كذريعة".
أظهرت لمراسلي رويترز تصاريح مكتوبة من الإدارة الكردية لعقد اجتماعات مجموعتها، تشترط تقديم تقرير شهري عن أنشطتها، وقالت إن السلطات غالباً ما تطلب معرفة ما يُناقش. 
وأكدت قوات سوريا الديمقراطية أن السلطات المحلية تطلب معرفة وقت وتاريخ الاجتماعات لضمان السلامة العامة.
عاشت مريم تحت حكم الأسد وداعش، والآن تحت حكم الأكراد. فقد اختفى اثنان من إخوتها بعد اعتقالهما من قبل التنظيم، وقُتل آخر بضربة جوية أميركية أثناء وقوفه في طابور للماء في الرقة، كما قالت.
وتقول: "سوريا تتجه نحو الانقسام. إذا زرت مدنًا تحت سيطرة الحكومة الجديدة في دمشق، يشك بك الأكراد. إذا عشت في هذه المنطقة، فأنت عدو مرتبط بالأكراد للطرف الآخر"، قالت.
مدينة مريم تقع عند منتصف الفرات، محاطة بأراضٍ خصبة وتسيطر على طرق عبور الشمال الشرقي. وكلما اندلعت الحرب في سوريا، تصبح المدينة هدفاً ثميناً.