في تحول لافت بمسار النظام المالي العالمي، هبط الدولار الأميركي، يوم الجمعة ١١ أبريل، إلى أدنى مستوياته منذ عقد أمام الفرنك السويسري، وإلى أدنى مستوى له منذ أكثر من ثلاث سنوات أمام اليورو، في مشهد يعكس حالة من القلق العميق تجاه مستقبل العملة التي طالما تزعّمت المشهد النقدي العالمي.
وبينما تتزايد عمليات بيع الدولار، يُطرح سؤال كبير: هل بدأ العالم فعلا يتخلى عن "الدولار الجبار"؟ وما الذي يعنيه ذلك للمستهلكين، والمستثمرين، والاقتصادات حول العالم؟
هذه الهزة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت في سياق سياسة تجارية متقلّبة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وقرارات متتابعة أضعفت الثقة بالمؤسسات المالية الأميركية، ودفع بعضها إلى مقارنات تاريخية بلحظات مفصلية، وفق ما نقله ديفيد إغناتيوس في واشنطن بوست.
في حديث خاص لبلينكس، أوضح محلل الأسواق المالية، نديم السبع، أن بيع الدولار "لم يكن مفاجئا"، مشيرا إلى أن "المؤشرات التي سبقت التراجع كانت واضحة، خاصة مع حالة عدم الاستقرار الناتجة عن قرارات ترامب الجمركية المترددة وتصاعد التوترات الجيوسياسية".
فما مصير الدولار؟ وما الخيارات البديلة؟ وهل سينعكس هذا التراجع على جيب المستهلك ومحفظة المستثمر؟
اعرف أكثر
بدأت بالفعل عملية "إزالة الدولار" من النظام المالي العالمي، بحسب ما أوردته واشنطن بوست، في ظلّ سَأم دولي من السياسات الأميركية العشوائية. وأشار ديفيد إغناتيوس إلى أن صندوق النقد الدولي لاحظ في تقريره الأخير "تراجعا تدريجيا مستمرا في حصة الدولار من احتياطيات البنوك المركزية"، حيث انخفضت من أكثر من 70% عام 2000 إلى أقل من 60% العام الماضي.
دويتشه بنك بدوره أكد أن الأسواق تشهد "انهيارا متزامنا في أسعار جميع الأصول الأميركية"، مشيرا إلى غياب المؤشرات على قيام المستثمرين بتكديس السيولة الدولارية، وهي آلية كانت تؤدي إلى صعود الدولار سابقا، لكنها اليوم تفشل في كبح التراجع.
أما ذي إيكونوميست، فوصفت المشهد بأنه لحظة يُعاد فيها التفكير بدور الدولار، بينما تحدث مايكل بيتيس، في فايننشال تايمز، عن أن دور الدولار كعملة عالمية قد أصبح عبئا اقتصاديا على أميركا.
سجلت عملات الملاذ الآمن صعودا ملحوظا هذا الأسبوع، مع تراجع مؤشر الدولار DXY إلى ما دون حاجز الـ100.
ووفق رويترز، ارتفع الفرنك السويسري إلى أعلى مستوى له منذ ١٠ سنوات، وبلغ الين الياباني 142.88 مقابل الدولار. اليورو بدوره صعد بنسبة 1.7% إلى 1.13855 دولار، فيما ارتفع الجنيه الإسترليني بنسبة 0.5%.
صحيفة ذي إيكونوميست أشارت إلى أن اليورو ارتفع بنسبة 6% منذ بداية العام، والين بنسبة 8%، والفرنك السويسري بنسبة 6%. حتى البيزو المكسيكي، المتراجع تقليديا، سجّل تحسنا أمام الدولار.
في موازاة ذلك، ارتفعت أسعار الذهب إلى أعلى مستوياتها التاريخية، وسجلت العقود الأميركية الآجلة للذهب 3226.5 دولارا للأونصة، وفق رويترز، ما يجعله خيارا بارزا في ظل هذا الاضطراب.
كان من المتوقع أن تؤدي الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب إلى تقوية الدولار، إذ ترفع كلفة السلع الأجنبية وتحدّ من الإقبال عليها.
لكن ذي إيكونوميست أوضحت أن ما حصل كان العكس تماما: بدلا من شراء الدولار، هرع المستثمرون لبيعه، في ظل شعور متزايد بعدم اليقين وفقدان الثقة في القيادة الأميركية الاقتصادية.
وصف لورانس سمرز، في واشنطن بوست، الوضع بأنه يذكّر بأزمة قناة السويس، حين فقدت بريطانيا موقعها المالي العالمي. وأضاف أن تراجع ترامب عن بعض قراراته الجمركية كان اعترافا بأن الثقة في الأصول الأميركية على المحك.
في السياق نفسه، قال نديم السبع لبلينكس إن "سياسات ترامب المترددة، والفوضى الاقتصادية، ورفض دول عدة الالتزام بالخط الأميركي، كلّها دفعت إلى التوجّه نحو عملات بديلة وتصفية استثمارات مرتبطة بالدولار".
وفق ذي إيكونوميست، فإن الأميركيين اليوم لا يدفعون فقط كلفة الرسوم الجمركية، بل أيضا ثمن ضعف العملة.
وزير الخزانة سكوت بيسنت كان قد أشار إلى أن ارتفاع الدولار سيخفّف من أثر الرسوم، لكن الواقع أظهر عكس ذلك. وبهذا، فإن المستهلك الأميركي أصبح يتحمل كلفة مزدوجة على المنتجات المستوردة.
صحيفة بلومبرغ أشارت إلى أن شركات مثل أودي ونينتندو علّقت الشحنات إلى أميركا أو أجّلت الطلبات المسبقة، بينما تتجه أسعار منتجات مثل نظارات Ray-Ban والباروكات إلى الارتفاع.
أما في الأسواق الناشئة، فإن ضعف الدولار قد يكون إيجابيا نسبيا. بحث لصندوق النقد الدولي عام 2023 أظهر أن ارتفاع الدولار بنسبة 10% يؤدي إلى تراجع الإنتاج بنسبة 1.9 نقطة مئوية في الأسواق الناشئة، و0.6 نقطة في الدول الغنية.
في حديثه مع بلينكس، شدد نديم السبع على أن الدولار "لا ينهار"، لكنه يواجه "ضغوطا كبيرة"، في ظل تزايد الاتجاه نحو الذهب والفضة والعملات البديلة. ووصف الوضع بأنه "إعادة تموضع" في ظل غياب الاستقرار.
ذي إيكونوميست اعتبرت أن الدولار دخل مرحلة "منتصف الابتسامة"، وهي المرحلة التي لا يكون فيها العملة الأقوى ولا الأضعف بشكل مطلق، بل في وضع مؤقت من التراجع.
أما فايننشال تايمز، فرأت في مقال رأي أن تفوق الدولار لم يعد بالضرورة في مصلحة الاقتصاد الأميركي، لا سيما أن الدول التي تدير اختلالاتها الاقتصادية بنشاط، مثل الصين، باتت قادرة على فرض واقع اقتصادي جديد قد يعيد رسم معالم النظام المالي العالمي.
من موقعه كعملة احتياط كونية إلى وضعه الحالي كهدف للنقد والبيع، يمر الدولار بلحظة فارقة تعيد تشكيل علاقته بالعالم.
فهل نحن أمام نهاية مرحلة أم بداية توازن جديد؟ يبقى الجواب رهنا بتطورات السياسة، والأسواق، وثقة المستثمرين، وهي جميعها متقلبة كحال الدولار اليوم.