مع اقتراب انطلاق اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي في العاصمة الأميركية واشنطن، خلال الأسبوع الممتد من 21 إلى 26 أبريل الجاري، اطلعت بلينكس على فصل تحليلي صدر ضمن تقرير "المراقب المالي - أبريل 2025"، والذي يُعرض تقليديا خلال فعاليات المؤتمر السنوي.
يركّز هذا الفصل على اثنين من البرامج الرئيسة في الموازنات الوطنية: دعم الطاقة، الذي يهم بشكل خاص الأسواق الناشئة والدول منخفضة الدخل، ومعاشات التقاعد العامة، التي تُعنى بها بشكل أكبر الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة.
ويستعرض كيف يمكن لتصميم هذه الإصلاحات أن يحقّق قبولا اجتماعيا وسياسيًا، في ظل بيئة معقدة تتداخل فيها العوامل الاقتصادية، والمؤسسات، والسياسة المالية، والرأي العام.
ويوظّف صندوق النقد في هذا الفصل تقنيات وبيانات جديدة، من بينها تحليل أكثر من مليوني مقالة صحفية باستخدام نماذج لغوية ضخمة، لرصد مزاج الرأي العام حيال إصلاحات دعم الطاقة والمعاشات، وتحديد العوامل التي تؤثر في مراحل الإصلاح، من الإعلان، إلى التنفيذ، ثم الاستمرار أو التراجع.
ويخلص التقرير إلى أن المزاج العام يُعد من بين أقوى العوامل المفسّرة لمصير هذه الإصلاحات، وأن تصميم السياسات، وتوقيتها، والتدابير المصاحبة، ومستوى الشفافية والمساءلة، جميعها تؤثر في استجابات الأطراف المعنية.
والأهم: التقرير يكشف أن نماذج لغوية شبيهة بتقنيات الذكاء الاصطناعي باتت تُستخدم لرصد مزاج الرأي العام في الوقت الحقيقي.
لكن، هل يمكن لـ"مشاعر الناس" أن تحدد مصير قرارات مالية كبرى؟ ومتى يصبح الشباب حليفا للإصلاح؟ وكيف يمكن للثقة أن تنقذ خطط الإنقاذ؟
اعرف أكثر
بحسب الفصل التحليلي، فإنّ الثقة بالمؤسسات العامة، ومستوى الشفافية، وسهولة الوصول إلى المعلومات، تلعب دورا حاسما في تحسين المزاج العام تجاه الإصلاحات.
عندما تُعلن الحكومات عن رفع أسعار الوقود أو تعديل سن التقاعد في بيئات تتسم بالشفافية والمساءلة، فإنّ المزاج الشعبي يتحسن خلال شهرين من الإعلان.
على العكس من ذلك، تتزايد المعارضة في الدول التي تفتقر إلى الشفافية وتُعتبر الإعانات أحد المنافع القليلة الملموسة للمواطنين.
في الدول التي تتمتّع بمؤسسات رقابية قوية وكفاءة إنفاق مرتفعة، مثل ألمانيا وأستراليا، تشير البيانات إلى تعافٍ أسرع في المزاج العام بعد إعلان إصلاحات التقاعد.
هذا ما تؤكده التجربة الألمانية التي ربطت رفع سن التقاعد بتحسين فرص توظيف كبار السن، ما عزز القبول الشعبي للخطوة.
وسجّل التقرير أن موقف الحكومة الإيجابي تجاه الإصلاحات يشكل بحد ذاته مؤشرًا على قدرتها على تمرير التعديلات، إذ يعكس إرادة سياسية في بناء توافق وامتلاك القرار.
للمرة الأولى، استخدم صندوق النقد الدولي نماذج لغوية ضخمة، مشابهة لتقنيات الذكاء الاصطناعي، لرصد المزاج الشعبي في الوقت الحقيقي.
تم تحليل أكثر من مليوني مقالة صحافية تغطي إصلاحات دعم الطاقة والمعاشات التقاعدية باستخدام قاعدة بيانات Factiva، شملت نحو 1.4 مليون مقال عن أسعار الوقود و600 ألف مقال عن المعاشات، بالإضافة إلى محتوى من وسائل التواصل الاجتماعي، لرصد تفاعل الأسر، والنقابات، والمجتمع المدني، والمعارضة، والقطاع الخاص مع القرارات الإصلاحية بين عامي 1990 و2024.
وصنفت ردود الفعل على مقياس من -5 (رفض تام) إلى +5 (دعم تام)، مع تتبع دقيق لتطور المزاج بعد كل إعلان عن إصلاح.
وتبيّن أن المزاج الشعبي ينخفض فور الإعلان، ويتشتت بين الأطراف، ويستمر سلبيًا لأشهر عدة، خاصة في حالات التقاعد.
ورغم أن الحكومة عادة ما تتحدث بإيجابية عن الخطط الإصلاحية، فإن النقابات والأسر والمعارضة تُعبّر عن سخطها فورا، ما يجعل المزاج العام مؤشرا قويا على نجاح الإصلاح أو فشله.
وبحسب صندوق النقد، يُعد المزاج العام ثاني أقوى مؤشر على احتمال تنفيذ إصلاحات أسعار الوقود بعد أسعار النفط، وأقوى مؤشر على سن تشريعات جديدة لرفع سن التقاعد.
يشير التقرير إلى أن الجمهور، وخاصة الشباب، يُظهر أكبر قدر من المقاومة عندما تُطرح الإصلاحات في فترات ركود اقتصادي أو من دون إجراءات تعويضية واضحة.
لكن المزاج العام لا يبقى على حاله. عندما تكون الإصلاحات تدريجية، وتُنفذ في فترات نمو اقتصادي، وتترافق مع مساعدات أو برامج حماية اجتماعية، فإن القبول الشعبي يتحسن بمرور الوقت.
في حالة إصلاحات الوقود في كولومبيا مثلا، أدّى الإعلان عن جدول زمني تدريجي لرفع الأسعار إلى تعزيز الثقة العامة.
وفي فرنسا، ساهمت شبكات الأمان الاجتماعي المنصفة في الحد من الاحتجاجات. أما في ألمانيا، فقد تحسّن المزاج العام تدريجيا بعد ربط التقاعد بتحسين التوظيف وتوفير البيانات التوضيحية.
ويكشف التقرير أن تحسين المزاج العام بمقدار انحرافين معياريين يمكن أن يرفع احتمالية إعلان الإصلاح بنسبة 30% وتنفيذه بنسبة 10%.
يؤكد صندوق النقد أن العدالة الاجتماعية عامل حاسم في تقبّل الإصلاحات. ففي البلدان ذات التفاوت المنخفض، كفرنسا، كانت ردود الفعل على إصلاحات الوقود أقل حدّة.
وفي النرويج، أدت زيادة التحويلات بنسبة 10% قبل رفع الأسعار إلى تراجع السخط الشعبي.
في المقابل، الدول ذات الفجوات الاجتماعية الأوسع واجهت موجات رفض أوسع وأطول.
كما أن الإصلاحات المفاجئة والكبيرة، من دون تعويض، تسببت بتدهور حادّ في المزاج، كما حدث في سريلانكا عام 2012.
وبحسب التقرير، فإن الإصلاحات الناجحة تحتاج إلى تصميم محكم يشمل: توقيتا مناسبا، تدريجية في التطبيق، آليات تعويض مستهدفة، ورسائل واضحة حول كيفية استخدام الوفورات الناتجة من الإصلاح.
يحذر صندوق النقد من أن تأجيل الإصلاحات لا يُنقذ الحاضر، بل يُثقل كاهل المستقبل.
فالفجوة المتزايدة بين متوسط العمر المتوقع وسن التقاعد تهدد بزيادة الدين العام، وتآكل شبكات الأمان، وتراجع قدرة الدول على الاستثمار في التعليم والصحة والتكنولوجيا.
إذا لم تُعالج الآن، فإن هذه التكاليف سترتد على جيل الشباب لاحقا، على شكل ضرائب أعلى أو خدمات أقل أو مستقبل مالي هش. وتوضح التجربة أن إصلاحات تدريجية ترافقها حوكمة ذكية يمكن أن توزع العبء بعدالة وتمنع الانفجار الشعبي.
تُظهر الحالات المدروسة أن إشراك الشباب، وشرح آليات التوزيع العادل، والتركيز على الحماية الاجتماعية، يمكن أن يحوّل الرفض إلى قبول.
بحسب صندوق النقد، فإن "القبول العام للإصلاحات لا يأتي تلقائيًا، بل يتطلب تصميمًا مدروسًا، مشاركة فعالة، وتواصلًا شفافًا، مع سياسات داعمة تعزّز الثقة وتُخفف من شعور الظلم".
وبينما تُظهر البيانات أن الإصلاحات الكبرى تمرّ بصعوبة، فإن التقنيات الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي، والمقاربة السياسية المبنية على الثقة، تمكّن الحكومات من بناء جسور مع الناس.