النزوح العشرين.. قصة فرار من القصف إلى البؤس في غزة
في خيمة مهترئة نصبت على عجل في دير البلح، جلس نضال كفرنة، 34 عاماً، محاطاً بأطفاله الخمسة، يحاول أن يقنعهم بأن قطعة القماش الممدودة فوق رؤوسهم كافية لتحميهم من الموت المتربص فوق كل بيت وشارع في غزة. يقول بصوت منهك: "أردت فقط أن أبعد الصغار عن الخوف".
كفرنة، الذي يعيش بقدم واحدة وبأحلام محطمة، اضطر خلال عامين من الحرب للنزوح أكثر من 20 مرة. قبل أسابيع تجاهل أوامر الجيش الإسرائيلي بإخلاء منزله في غزة، فالنزوح صعب على من لا يملك المال ولا القدرة على الحركة، وفق تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.
وتقول الصحيفة إنه مع اقتراب دوي الانفجارات، وجد كفرنة نفسه مجبراً على الرحيل مرة أخرى، ليلتحق بعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين يفرّون من غزة المدينة، التي تزعم إسرائيل أنها "معقل حماس".
فكيف يعيش الفلسطينيون العالقون تحت القصف أو النازحون إلى مخيمات تغص بالبؤس؟
تقديرات إسرائيل والأمم المتحدة تشير إلى أن نحو مليون شخص يعيشون في غزة المدينة، أي نصف سكان القطاع. كثير منهم صمدوا رغم عامين من الحرب، لكن معظمهم اليوم في طريقهم إلى مخيمات نزوح وسط القطاع، مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة: ماء نظيف، غذاء، دواء أو حتى مساحة للاحتماء.
ورغم أن إسرائيل تقول إنها تريد "إخلاء المدنيين لتتمكن من محاربة حماس بحرية أكبر"، فإن الفلسطينيين يرون أنفسهم أمام معادلة قاسية: البقاء تحت القصف أو الرحيل إلى مخيمات تغص بالبؤس.
يحكي كفرنة كيف نقلت عائلته متاعها القليل على عربة يجرها حمار تبرع بها غريب متعاطف، ليقطعوا طريقاً طويلاً بمحاذاة الساحل. حملوا بعض الملابس والفرش، ثم ساعدهم شبان على نصب خيمة من أقمشة بالية، وفق الصحيفة.
"استطعنا أن نوفر شيئاً فوق رؤوسنا"، يقول وهو ينظر إلى أطفاله.
في مخيم عشوائي داخل غزة المدينة، يجلس مقداد المقداد،31 عاماً، إلى جانب ابنته الصغيرة، يتابع بقلق أصوات القصف التي تقترب من كل الجهات.
يقول: "في غزة لا يوجد مكان آمن. النزوح لا يعني النجاة، المخيمات مكتظة ولا الماء نظيف ولا الطعام يكفي. وحتى هنا لم نسلم من الغارات".
منظمات الإغاثة الدولية تصف الوضع في غزة بأنه "كارثة غير مسبوقة". الأمم المتحدة أعلنت الشهر الماضي أن غزة المدينة دخلت مرحلة "المجاعة" بعد أشهر من الحصار الإسرائيلي الذي حرم السكان من الغذاء والدواء والمواد الأساسية.
أما إسرائيل فرفضت هذه التقارير ووصفتها بأنها "منحازة"، مؤكدة أنها تسمح بمرور شحنات تكفي لتلبية الاحتياجات الغذائية.
لكن الواقع مختلف، عاملون إنسانيون يقولون إن البيروقراطية العسكرية الإسرائيلية تعرقل دخول المساعدات، فحتى مواد بسيطة مثل أقراص تعقيم المياه أو أعمدة الحديد الخاصة بالخيام تُمنع بحجة "الاستخدام العسكري المحتمل". وفي حال السماح، تبقى الشاحنات ساعات طويلة على المعابر بانتظار تصاريح جديدة لعبور الحواجز.
كارل بيكر، مسؤول في المنظمة الدولية للهجرة، حذّر من أن الخدمات الإنسانية استُنزفت ولم تعد قادرة على استيعاب موجة نزوح جديدة.
بحسب وزارة الصحة في غزة، فإن الحرب المستمرة منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023 أودت بحياة أكثر من 63 ألف فلسطيني، دون تمييز واضح بين مدنيين ومقاتلين.
وبينما يواصل الجيش الإسرائيلي عملياته في أحياء مثل الزيتون والدرج والشيخ رضوان، يعيش الأطفال ليالٍ بلا نوم، تملؤها أصوات الرصاص والانفجارات.
في غزة، يبدو أن الطريق إلى النجاة مسدود، والناس عالقون بين موت محقق في بيوتهم وبؤس قاتل في خيامهم.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صادق مؤخراً على خطة السيطرة الكاملة على غزة المدينة، متحدياً الانتقادات الدولية وحتى بعض الأصوات داخل جيشه.
وتقول إسرائيل إنها باتت تسيطر عملياً على 40% من المدينة، فيما يواصل طيرانها استهداف أبراج سكنية ومناطق مأهولة بذريعة وجود مقاتلين من حماس.
لكن منتقدين يحذرون من أن العملية قد تعرض حياة نحو عشرين أسيراً إسرائيلياً للخطر، فيما يتهم خصوم نتنياهو بأنه يطيل أمد الحرب حفاظاً على مستقبله السياسي.