أفران الفحم التقليدية بالجزائر.. أشعلها الأجداد ويطفئها الأبناء

"يداه ملطختان بسواد الجمر"، هكذا وجدت بلينكس يحيى سلامي صاحب الـ73 عاما في فرنه التقليدي بمحافظة تلمسان البعيدة بـ520 كيلومترا غربي العاصمة الجزائرية، كل ما فيها ينطق حضارة وأصالة.

الكل يعرفه هنا في تلمسان المدينة بـ"عمي يحيى الفرَّان"، ليس مجرد شخص، بل هو واحد من معالم المدينة، هو واحد من القلائل الذين جابهوا العصرنة بـ"النار والجمر" و"المذاق التقليدي".

بلينكس دخلت الفرن وجلست مع يحيى سلاهمي، كانت جلسة حديث شائق أكثر منها حوارا إعلاميا، فالرجل يُقدم المعلومة من هنا، ويستقبل زبائنه من هناك، من دون أن ينسى أين توقف في معلوماته.

يقول "عمي يحيى" لبلينكس عن تاريخ الأفران التقليدية بمحافظة تلمسان: " قديما، كان لكل منطقة هنا فرّانها الخاص بها، كل واحد منهم كان يصنع خبز الصباح، فقد كان خبز السكان المفضل، وهناك أنواع مختلفة منه، يُحضر خصيصا لوجبة الغداء عند منتصف النهار، مصنوع من الطحين".

ويتابع قائلا: "ليومنا هذا، لازال سكان تلمسان يفضلون استعمال الأفران التقليدية، هناك من غادرها 40 عاما، لكن عندما عاد جاء مباشرة إلى الأفران مع أبنائه".

يحيى سلاهمي يبلغ من العمر 73 عاما، قضى منها 60 عاما كاملة في الفرن، حتى إنه دخل "عالم الأفران" قبل استقلال بلاده الجزائر أي قبل 1962، بل بدأها مع اندلاع الثورة التحريرية عام 1954، ومنذ ذلك الوقت وهو يعمل في مهنة الفرّان.. كبر عليها كما قال لبلينكس.

يحيى سلاهمي قدّم مثالا عن أهمية الأفران التقليدية لساكنة تلمسان، رمضان بالنسبة له شهر الذروة التجارية، إذ قال: "الفرّان في تلمسان خلال رمضان يعمل ليلا نهارا لطهي الحلويات التقليدية خاصة الكعك، وكل العائلات كانت تحرص على إعداده، اشتهرنا قديما بطهي الكعك في رمضان، إلى درجة لا تصدق، لا يمكنك حتى الوقوف في هذا المكان".

ذهب بعيدا في كلامه عندما قال: "في الستينيات كان طهي الكعك 24 ساعة على 24 في الأيام الأخيرة من شهر رمضان".

أما عن تاريخ هذه الأفران التقليدية فقد ذكر "عمي يحيى" بأنها تعود إلى "عهد العثمانيين" أي منذ أزيد من 6 قرون خلت.

يحيى سلاهمي كان برفقته عامل بنفس عمره، يتداولان على ذلك الفرن لطهي ما يجلبه الزبائن، لم يكن من بين هؤلاء الزبائن فرد واحد من العائلة.

اضطرت بلينكس هنا لسؤاله إن كان له أبناء، أجاب بـ"بلا.. لدي 3 أبناء، اثنان منهما تخرجا من الجامعة، والأصغر عاطل عن العمل، توقف في دراسته عند الثالثة ثانوي".

عادت بلينكس لتسأل يحيى انطلاقاً من إجابة سابقة عندما قال إنها "مهنة متوارثة منذ الجد".. فأين الأبناء؟

طلب يحيى من شغيله وصديقه فترة استراحة، أراد أن يجلس بجانب الفرن لتدخين سيجارة، واضعا تلك السيجارة بين أصبعين "بمنتهى النقاء بسواد الجمر".

بعد نحو "5 نسفات" من تلك السيجارة رد يحيى على سؤال بلينكس، بعد أن اعتقدنا أنه نسي السؤال أو انزعج منه.

ليجيب "عمي يحيى" على السؤال: "لن تجدوا في كل أفران تلمسان أي شاب، جميعهم في عمري تقريبا، أبنائي يفتخرون بمهنتي، لكن رفضوا، يعتقدون في قرارة أنفسهم بأن هذه المهنة عفى عليها الزمن، يريدون تحقيق ذاتهم بتخصصاتهم، البعض من أبناء أصدقائي يخجلون امتهانها".

قبل أن يختم كلامه بابتسامة تنطق حزنا بالقول: "هذا الفرن الذي يفوق عمره 60 عاما، سيتوقف عمره مع توقف قلبي".