سياسة
.
عندما تشعر بالضغط أو الاكتئاب أو الملل، تخرج في نزهة أو تشاهد فيلما، لكن في الجيش الإسرائيلي فلك الحرية في إشعال الحرائق والسرقة ومهاجمة المدارس والمستشفيات والمساجد وتفجير المنازل، وإطلاق النار كيفما شئت وعلى من شئت.
هذا ما كشفه تحقيق لصحيفة "+972" الإسرائيلية تضمن شهادات عدة جنود ممن قاتلوا في غزة، أكدوا جميعا أن إطلاق النار والقتل والتدمير أصبح بالنسبة لهم مثل "ألعاب الفيديو" للتسلية من ضجر الروتين اليومي.
التحقيق كشف عن أهوال رواها أولئك الجنود مما اقترفه الجيش الإسرائيلي في القطاع المحاصر، بما في ذلك ترك الجثث في الشوارع للكلاب والقطط لتأكلها، ودفن القتلى تحت الركام في مقابر جماعية وإطلاق النار بشكل عشوائي على المنازل باعتبار الأمر مجرد "لعبة".
فما الذي يحدث؟ وما أبرز ما كشف عنه أولئك الجنود؟ وكيف يمرر الجيش هذه التصرفات بل ويشجع على بعضها؟
في عيد الهانوكا اليهودي، أطلق الجنود الإسرائيليون الرصاص المطاطي بصورة كثيفة للغاية، لا لشيء، وإنما فقط لأنه يصدر ما يشبه أضواء شموع العيد، بحسب الصحيفة.
"نيران عادية" هو مصطلح يطلقه الجنود الإسرائيليون في غزة حول إطلاق النار بلا أي هدف أو مبرر، أو كما قال أحدهم للصحيفة "أنا أشعر بالملل، لذلك أطلق النار".
أحد الجنود بشمال غزة قال إن رفاقه في الجيش يودون "خوض التجربة بالكامل"، لكن في الكثير من الأحيان لا توجد معارك ضارية تبرر إطلاق النار. لذلك منحهم الجيش الضوء الأخضر لإطلاق النار دون قيود "كوسيلة للتنفيس عن التوتر أو التخفيف من بلادة الروتين اليومي وملله".
وأضاف الجندي، الذي ترك الخدمة مؤخراً، أنه نفسه أطلق الرصاص دون سبب في البحر أو الشوارع أو على مبانٍ مهجورة، على حد زعمه. ويقول: "الجيش يطلق النار في الأحياء الفارغة وغير المأهولة بشكل مكثف، دون أي سبب، تحت ذريعة إظهار الوجود ميدانيا".
جندي آخر قال إن تلك الأوامر تأتي مباشرة من قادة السرية أو الكتيبة، ولا تكون هناك أي قيود على إطلاق النار بكثافة كبيرة تصل لحد "الجنون"، وأن الأمر ليس مقتصراً على الأسلحة الصغيرة، بل يشمل أيضاً المدافع الرشاشة والدبابات وقذائف الهاون بصورة عشوائية.
الجيش الإسرائيلي يرفض منذ الثمانينيات الكشف عن قواعد إطلاق النار لجنوده، التي تتضمن اللوائح الضابطة للحالات التي يسمح فيها للجندي استخدام السلاح وما يمكنه فعله به، وإذا ما كان يحتاج إلى إذن من مسؤول أعلى أم لا.
لكن الصحيفة تقول إنه منذ الانتفاضة الثانية، لم يعطِ الجيش الإسرائيلي جنوده أي قواعد اشتباك مكتوبة، ما يدع الأمر مفتوحاً لتفسير الجنود في الميدان وقادتهم والتصرف مثلما شاءوا.
جندي ثالث خدم في قوات الجيش بغزة لعدة أشهر، بما في ذلك مركز قيادة كتيبته، قال إنه ورفاقه تمتعوا بحرية عمل كاملة بلا رقيب أو قيود.
وأضاف أنه كان بإمكان الجنود إطلاق النار على أي شخص مدني أو مسلح من دون أي حاجة إلى طلب الإذن أو الشرح، وأن كل ما يحتاج إليه الجندي هو القول إنه شعر بمجرد التهديد.
وأضاف أن أوامر إطلاق النار تتيح للجندي في هذه الحالة التصويب نحو مركز كتلة الشخص المستهدف (بمن في ذلك الأطفال والعجائز من السيدات) بدلاً من إطلاق طلقات تحذيرية في الهواء.
وذكر ذلك الجندي أيضاً حادثة وقعت في نوفمبر الماضي، عندما قتل الجنود عدة مدنيين في أثناء إخلاء مدرسة قريبة من حي الزيتون في مدينة غزة تؤوي عددا من النازحين.
الجيش أمر الأشخاص الذين تم إجلاؤهم بالخروج إلى اليسار باتجاه البحر، وليس إلى اليمين، إذ يتمركز الجنود، ولكن فجأة بدأ الجنود بإطلاق النار داخل المدرسة، ما أصاب النازحين بالذعر ودفع بعضهم إلى الانحراف بالاتجاه الخاطئ وسط حالة من الفوضى.
الجندي قال إنهم قتلوا كل من اتجه إلى اليمين، بمن فيهم أطفال كان عددهم بين 15-20 شخصا حتى تكوّمت الجثث.
وقال الجندي إن الجيش يشتبه في أن كل رجل يتراوح عمره بين 16 و50 عاما بأنه "إرهابي"، وإن كان أعزل.
الجيش يخلق أيضاً ما يسمى "مناطق إبادة" في غزة، وهي عبارة عن اعتبار دائرة بقطر معين حول مناطق تمركز الجنود على أنها منطقة مسموح فيها بقتل أي جسد يتحرك واعتبار أولئك الأشخاص "إرهابيين"، بحسب ما كشفت صحيفة هآرتس في مارس الماضي.
الجنود شهدوا أيضاً قتل الجيش مدنيين أبرياء لم يحملوا أي سلاح جاءوا بحثاً عن فتات الطعام على الطرق التي سلكت منها شاحنات المساعدات.
استهتار بمصير الأسرى
الضوء الأخضر للجنود لإطلاق النار والقصف العشوائي في غزة كما يحلو لهم كان له ثمن على الإسرائيليين أنفسهم، إذ تقول صحيفة "+972"، إن تلك السياسة أدت إلى قتل عدد كبير من الجنود بنيران صديقة، يقدر عددهم بـ28 على الأقل بحسب الجيش الإسرائيلي.
هذا بالإضافة لقتل عدد من الأسرى، 3 منهم خرجوا أمام الجيش رافعين رايات بيضاء وأياديهم في الهواء وحاولوا الاستغاثة بالعبرية، لكن قتلهم الجنود.
وتقدر صحيفة هاماكوم الإسرائيلية أنه قتل في غزة نحو 25 أسيرا إسرائيليا، 10 منهم تم التأكد أنهم قتلوا على يد الجيش، والباقي لا توجد معلومات كاملة عن ملابسات الحادثة.
وقال الجندي احتياط يوفال غرين من القدس، إن قواعد الاشتباك في غزة أظهرت لامبالاة عميقة من الجيش تجاه مصير الأسرى، وأضاف "لقد أخبروني عن ممارسة تفجير الأنفاق، وقلت لنفسي إنه إذا كان هناك أسرى [فيهم] فسوف يقتلونهم".
غرين قال "سمعت تصريحات من جنود آخرين مفادها بأن الأسرى ماتوا، وليس أمامهم أي فرصة، ويجب التخلي عنهم. هذا أزعجني أكثر من غيره، إنهم ظلوا يقولون نحن هنا من أجل الأسرى، لكن من الواضح أن الحرب تضر بهم. كانت هذه فكرتي حينها؛ واليوم تبين أن هذا صحيح".
ويقول جندي آخر إنه حتى بعد حادث قتل الأسرى الثلاثة في الشجاعية، لم يغير الجيش قواعد الاشتباك وإطلاق النار، واستمر الضوء الأخضر المطلق للجنود للتصرف كما يحلو لهم.
من بين أفظع ما رواه الجنود الإسرائيليون هو تعمد ملء الشوارع بالجثث المتحللة لفلسطينيين، وتركها للكلاب والقطط لتأكلها أمام أعينهم، بالإضافة إلى سير الجرافات والدبابات الإسرائيلية العسكرية فوق مئات الجثث والضحايا الأحياء في الشوارع.
لكن الجيش لديه سياسة واضحة في إخفاء تلك الجثث قبل وصول القوافل الإنسانية، كي لا يلتقط أعضاء تلك البعثات الصور لأجساد الأطفال والنساء والرجال التي تملأ الشوارع.
وعن ذلك يقول أحد الجنود "تنزل جرافة من طراز D-9، ومعها دبابة، لتطهير المنطقة من الجثث، وتدفنها تحت الأنقاض، وتقلبها جانباً حتى لا تراها القوافل وتلتقط صورا لأشخاص في مراحل متقدمة من التحلل".
لذلك، الجندي أخبر "+972" أن عدد القتلى الرسمي لوزارة الصحة الفلسطينية أقل بكثير من الواقع، لأن الجيش يخفي مسارح الجريمة وأعدادا كبيرة من الجثث. "لقد رأيت الكثير من المدنيين، عائلات ونساء وأطفال، هناك وفيات أكثر مما تم الإبلاغ عنه".
أما الجندي يوفال جرين فقال إنه عندما وصل خان يونس في نهاية ديسمبر، "رأينا كتلة غير واضحة خارج أحد المنازل. أدركنا أنه جسد. رأينا ساقا. وفي الليل أكلته القطط. ثم جاء شخص ما ونقل البقايا".
ونقلت الصحيفة الإسرائيلية عن مصدر غير عسكري داخل غزة قوله "بالقرب من المجمع العسكري بين شمال وجنوب قطاع غزة، رأينا نحو 10 جثث مصابة بطلقات في الرأس برصاص قناص، في أثناء محاولتها العودة إلى الشمال على ما يبدو. كانت الجثث متحللة؛ وكانت هناك كلاب وقطط من حولهم".
الجرافات لا تخفي فقط الجثث، وإنما تهرس في بعض الأحيان فلسطينيين أحياء وأمواتا. في الشهر الماضي شهد الجندي الجندي غي زاكين الذي كان يدير جرافات D-9 في غزة أمام لجنة في الكنيست بأنه وطاقمه "دهسوا مئات الإرهابيين، أحياءً وأمواتاً".
وقال جنود آخرون إنهم قاموا بالدعس فوق الجثث بأرجلهم في بعض الأحيان نظراً لتراكمها في الشوارع وامتناع الجيش عن دفنها.
الجنود يشيرون أيضاً إلى نشوة هائلة وفرحة كانت تنتابهم عند تدمير بيوت الفلسطينيين في غزة عن بعد، إذ قال أحدهم للصحيفة بأنه عندما تقوم الطائرات دون طيار ببث لقطات حية للهجمات في غزة، "كانت هناك هتافات فرح في غرفة الحرب. من حين لآخر، ينهار مبنى والشعور هو: يا له من جنون، يا لها من متعة".
وأضاف "لقد شعرت وكأنها لعبة كمبيوتر. فقط بعد أسبوعين أدركت أن هذه مباني فعلية تتساقط، إذا كان هناك سكان في الداخل، تنهار المباني على رؤوسهم، وحتى إذا لم يكن الأمر كذلك، فبكل ما بداخلها يدمر".
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة