حرب ويكيبيديا.. منافسة شرسة بين إسرائيل وغزة

بعد أسبوع على بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، قام محررون بإنشاء صفحة على ويكيبيديا تحمل اسم "المزاعم الفلسطينية بالإبادة الجماعية" ليتناول اتهام إسرائيل على مر التاريخ بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين بالعموم منذ نكبة عام 1948 وردود إسرائيل على تلك الاتهامات.

لكن بعدما رفعت جنوب أفريقيا قضية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في غزة، أنشأ محررون آخرون صفحة جديدة حول الإبادة في غزة على وجه الخصوص. لكن ويكيبديا منحها عنوان "ادعاءات الإبادة الجماعية في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على غزة".

الصفحة الأولى كانت تحصد نحو 55-90 ألف مشاهدة يوميا منذ بداية الحرب حتى شهر مايو الماضي، بينما الثانية المتعلقة بغزة كان أداؤها أقل نسبيا.

وتحولت الصحفتان لساحة حرب مفتوحة بين الطرفين، إذ قام عشرات المحررين من داعمي إسرائيل وفلسطين بإدخال 1124 مرجع على صفحة إبادة غزة وحدها، وهو ما دفعها للنمو لأبعاد هائلة والوصول لكم ضخم من التفاصيل والشمولية.

في البداية كانت صفحة الإبادة في غزة معتمدة على 5 مصادر معلومات فقط، من بينها تقرير لعشرات الخبراء من الأمم المتحدة حول الموضوع وتقرير لوكالة رويترز للأنباء عن مقتل الصحفيين في غزة وموقع هندي باسم "الآفاق" ذكر أن الإبادة الجماعية تحدث في الحرب في غزة.

أما الآن فتحتوي تلك الصفحة على أكثر من 500 مرجع ومصدر لتوثيق المعلومات فيها، بينما صفحة الاتهامات الفلسطينية بالإبادة فأصبح فيها أكثر من 400 مصدر ومرجع تاريخي أي 4 أضعاف المراجع في صفحة حرب 1948.

وفي شهر مايو، بدأ المحررون المناصرون لفلسطين بطرح تغيير اسم الصفحة وحذف كلمة مزاعم أو ادعاءات والقول إن الإبادة مثبتة.

وبالفعل، في يوم 25 يوليو، نجح المحررون في نيل تصويت الأغلبية على هذا التعديل ليصبح اسم الصفحة "الإبادة الجماعية في غزة"، وهو ما جعلها الصفحة الرئيسية في محرك بحث غوغل وأصبح يزورها يوميا أكثر من 55 ألف شخص.

المحررون الذين صوتوا لتغيير اسم الصفحة دعموا حجتهم بالاستشهاد بإجماع الباحثين الأكاديميين والخبراء على الإبادة، بما في ذلك خبراء في قضايا مثل الإبادة الجماعية وحقوق الإنسان ومحامي حقوق الإنسان والمؤرخين في مجال أبحاث الهولوكوست.

واعتبرت صحيفة هآرتس هذا الإخفاق والفشل الإسرائيلي "المخيب للآمال" بأنه علامة على تدهور "العمل من أجل رواية إسرائيل في مواجهة الانتقادات العالمية ضد الحرب في غزة".

وحاولت صحيفة "جويش جورنال" بلا جدوى تشويه صورة الصفحة واتهام محرريها بالانحياز وانتهاك سياسات الموقع لاعتمادهم على "مصادر غير موثوقة" مثل وزارة الصحة في غزة.

صفحة الإبادة في غزة تستشهد بتصريحات الناشطين والسياسيين والمشاهير الذين عبروا عن رسائل منتقدة لإسرائيل مثل الناشطة المناخية غريتا ثونبرغ، وعضوة مجلس النواب الأميركي رشيدة طليب وماكليمور مغني الراب الذي كتب أغنية بعنوان "قاعة هند".

لكن بحسب صحيفة هآرتس، فإن أقوى أدلة اعتمد عليها محررو ويكيبيديا في تثبيت وصف الإبادة الجماعية على ما يحدث في غزة كانت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم الذين أيدوا بما لا يدع مجالا للشك تجويع وتدمير ومسح غزة عن الوجود وقتل الناس بعشوائية.

وتقول هآرتس إنه في بداية الحرب على غزة، بدا أن أعضاء تحالف نتنياهو الحاكم كانوا "يتسابقون لقول الشيء الأكثر تطرفا" عن الفلسطينيين، مثل تصريحات وزيري الأمن والمالية إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش الداعية لمسح غزة وطرد أهلها.

كذلك تستشهد الصفحة بوزير الزراعة وعضو المجلس الوزاري السياسي والأمني آفي ديختر بعد أن قال إنه يجب أن تكون هناك "نكبة في غزة"، أو الوزير عميشاي إلياهو، لأنه طلب في أوائل نوفمبر إسقاط قنبلة ذرية على غزة، وعضو حزبه العضو في الكنيست يتسحاق كروزر، على ضوء دعوته "نحن بحاجة إلى تسوية غزة بالأرض".

صحفة الإبادة تتضمن أيضا تهمة ضد إسرائيل وهي أن هناك سياسة لتجويع الفلسطينيين الذين تم إجلاؤهم من القطاع عبر منعهم من الوصول للمياه.

وتقول هآرتس إنه تم إثبات تلك التهمة على إسرائيل في الصفحة من خلال الاستشهاد بأمر وزير الخارجية الإسرائيلي نفسه يسرائيل كاتس الذي قال في بداية الحرب "غزة ستكون من دون كهرباء، لا ماء ولا وقود حتى عودة المختطفين".

كما تستشهد الصفحة بتصريحات تحريضية من رئيس الدولة، يتسحاق هرتسوغ، ووزير الاقتصاد نير بركات، والجنرال غيروا أيدلاند ونتنياهو وغيرهم العشرات من الضباط والمسؤولين.

تعد ويكيبيديا سوقا مفتوحا للحجج والأدلة، فهي موسوعة مجانية مفتوحة المحتوى على الإنترنت تم إنشاؤها من خلال جهد تعاوني لمجتمع من المستخدمين، إذ يمكن لأي شخص مسجل على الموقع إنشاء مقال للنشر، بينما لا يلزم التسجيل لتحرير المقالات المنشورة مسبقا.

عند قيامك بأي تعديل على ويكيبديا، فإنك بحاجة لإضافة مصدر تلك المعلومة ويجب أن تختار مصدرا له مصداقية، ومن ثم عليك الانتظار ريثما يقوم المحررون الآخرون بالتحقق من التعديل وصحته وقوة المصدر المستخدم.

إذا حصلت على غالبية الأصوات، فإن قرارك نافذ وتعديلك يضاف، بينما إذا لم تحصل على أصوات كافية، يمكن أن يرفض تعديلك.

في حين يمكن لأي شخص تحرير الإدخالات على ويكيبيديا، إلا أن أولئك الذين كانوا نشطين لفترة طويلة فقط يمكنهم المشاركة في عمليات صنع القرار المجتمعي مثل تصويتات الحذف.

في شهر نوفمبر 2020، فضح موقع ويكيبيديا شركة علاقات عامة إسرائيلية خفية "لإدارة السمعة عبر الإنترنت" تعمل على مساعدة العملاء الأثرياء على دفن ماضيهم المثير للجدل.

التقرير نشر في The Signpost، وهي الصحيفة الداخلية لويكيبيديا للمحررين باللغة الإنكليزية. وحمل التقرير عنوان "تقرير خاص: التحرير المدفوع مع الصلات السياسية".

المقال فضح اسم الشركة الإسرائيلية Percepto (المعروفة سابقا باسم Veribo) وكشف عن تورطها في الاستخدام "المتطور" لحسابات مزيفة أو هويات خادعة على الإنترنت، لتحرير إدخالات ويكيبيديا نيابة عن عملاء يدفعون لها المال، من دون الكشف عن أنها حصلت على أجر، في انتهاك مباشر لقواعد ويكيبيديا.

وحررت تلك الشركة إدخالات ويكيبيديا المتعلقة بمؤسسة خيرية كندية تورطت لاحقا في فضيحة تتعلق برئيس الوزراء جاستن ترودو، وفقا لمقال Signpost.

كما حررت إدخالات ويكيبيديا حول الأثرياء الروس والأوكرانيين الأوليغارشيين، وساعدت شركة العلاقات العامة البريطانية Bell Pottinger في حملة علاقات عامة شديدة الانقسام في جنوب أفريقيا أدت إلى فضيحة شركة العلاقات العامة البريطانية تلك وانهيارها.

وكشفت صحيفة تايمز أوف إسرائيل أيضا أن شركة بيرسيبتو التي تحمل شعار "التأثير على الواقع للدفاع عن سمعتك" عملت لصالح عملاء من صناعة "الخيارات الثنائية" الاحتيالية في إسرائيل، مما ساعد في دفن الانتقادات عبر الإنترنت ضدهم.

كما عملت لصالح شركة إسرائيلية، NIP Global، والتي أدينت في إسرائيل في عام 2016 بتهمة رشوة مسؤول أجنبي في دولة ليسوتو الأفريقية.

هناك العديد من الشركات المشابهة في إسرائيل وحول العالم التي تتخصص في تضليل ويكيبيديا ودفن الماضي السلبي على الإنترنت للعملاء الأغنياء، هذا بالإضافة لحملات التضليل والتأثير للحكومة الإسرائيلية نفسها.

في شهر أبريل الماضي، أثار نجل نتنياهو الأصغر والأقل شهرة أفنر شجارا في موقع ويكيبيديا عندما تقدم بطلب لحذف الصفحة المخصصة له في الموقع نظرا لابتعاده عن الأضواء وعدم وجود أي تفاصيل هامة في حياته وأن صفحته لا تحتوي أي تفاصيل مثيرة للاهتمام للعامة.

أفنر نتنياهو كتب في طلبه: "أنا موضوع مدخل، ولا أرى أي أهمية عامة لذلك. المدخل نادر على أي حال".

لم يصدق محررو ويكيبيديا باللغة العبرية في البداية أن الطلب كان من نتنياهو بالفعل، وأحالوه إلى الفرع المحلي لمؤسسة ويكيبيديا، وهي المنظمة غير الربحية التي تشرف رسميا على الموقع، للتحقق من هويته.

أفنر كان قد تقدم بنفس الطلب في السابق في عام 2019 لحذف صفحته، لكن كانت هناك أغلبية بسيطة للحذف، بينما يشترط الموقع أغلبية ساحقة بنسبة تتجاوز 55% المطلوبة، فتم رفض الطلب. وكذلك رفض طلب لحذف صفحة شقيقه الأكبر يائير.

هذه المرة، صوت مجتمع محرري ويكيبيديا الإسرائيلي بأغلبية 75 صوت مقابل 54 لصالح دمج صفحة أفنير نتنياهو في صفحة عائلة نتنياهو، وهو ما مثل أغلبية ساحقة سمحت بقبول حذف الصفحة.

حذف صفحة أفنر أثار الجدل في إسرائيل، ولم يمض الكثير من الوقت حتى طلب محررون إعادة التصويت وقاموا بإعادة تنصيب الصفحة مرة أخرى والتراجع عن الحذف في شهر يونيو.