الحبوب مقابل السلاح.. نهاية شهر عسل "الحلف الأوكراني"؟

"إذا خسرت أوكرانيا - لا قدر الله - فإننا سنخسر السلام والاستقرار لعقود... سيصبح العالم مختلفاً تماماً وللأسوأ وسيكون من الصعب للغاية التوصل لتوازن إذا انتصرت روسيا لأنهم سيردون شن المزيد من الهجمات بطرق مختلفة" كانت هذه كلمات رئيس الوزراء البولندي في شهر إبريل الماضي.

بهذا المبدأ شكلت بولندا منذ بدء الحرب حضناً استراتيجياً لجارتها أوكرانيا. من جهة، الحكومة البولندية فتحت حدودها في وجه ملايين اللاجئين الأوكرانيين واستضافت وارسو أكثر من مليونين منهم. ومن جهة أخرى بولندا أصبحت أهم ممر وقاعدة لحلفاء أوكرانيا الغربيين الراغبين في الوصول لكييف وإرسال الدعم لها.

العديد من الأسلحة الغربية تدخل لأوكرانيا عبر بولندا، وكذلك قادة الدول الداعمة لكييف. فالرئيس الأميركي جو بايدن دخل إلى أوكرانيا في شهر فبراير في قطار بري عبر بولندا، وبالمثل يدخل السياسيون والدبلوماسيون والصحافيون وأعضاء البعثات الدولية إلى الأراضي الأوكرانية عبر خطوط السكك الحديدة البولندية. وكذلك خرج زيلينسكي في أولى جولاته الخارجية عبر بولندا.

في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أدان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أحد أقرب حلفاء كييف الأوروبيين منذ بدء الحرب. في خطوة غريبة ونادرة، زيلينسكي قال "من المثير للقلق أن نرى كيف يتلاعب بعض أصدقائنا في أوروبا بالتضامن في مسرح سياسي ويصنعون قصة مثيرة من الحبوب. هذه الدول قد تبدو وكأنها تلعب دورها الخاص، لكنها في الواقع تساعد في تمهيد الطريق أمام موسكو".

وعلى الرغم من حرص الرئيس الأوكراني عدم تسمية تلك الدولة، إلا أن الرسالة وصلت على الفور بأنه يقصد بولندا، وهو ما فجر غضب وارسو.

الزراعة تولد نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا لذلك هي مهمة جداً لزيلينسكي وحكومته لضمان استمرارية اقتصاد البلاد.

"سيكون من الجيد إذا تذكرت أوكرانيا بأنها تحصل على المساعدات من بولندا وأننا أيضاً بلد ترانزيت لأوكرانيا" كانت هذه كلمات الرئيس البولندي أندجي دودا لصحفيين في نيويورك على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة.

كلمات دودا هذه أتت كتحذير لأوكرانيا لكيلا تتمادى مع جارتها البولندية في رد فعلها على قرار وارسو حظر الحبوب الأوكرانية.

دودا تفاخر بعدها بأن بلاده قدمت الكثير لكييف وأن زيلينسكي يجب أن يتذكر ذلك. حيث قال في لقاء صحفي مع بلومبيرغ "أرسلنا 300 دبابة لأوكرانيا. ووفرنا لهم أيضاً تقريباً جميع طائراتنا من طراز ميغ-29. أرسلنا أكثر من 100 مركبة مدرعة، ووفرنا لهم أحدث مدافع هاوتزر. وأيضاً أوصلنا لهم عدد ضخم من الأسلحة. وقد ساعدنا أوكرانيا طوال الوقت".

وأضاف دودا "لقد ضحينا كثيراً. لقد أعطينا الكثير من أجل مساعدة أوكرانيا لأننا نريد مساعدتها لأننا نفهم ما يعنيه أن تكون واقعة تحت العدوان الروسي، لكننا أيضاً نريد أن نحكي مواطنينا، وهذا أمر مبدئي".

الإعلام البولندي تداول تصريحاً لمستشار سابق لمكتب الرئاسة الأوكرانية أوليكسي ميكولايفيتش أريستوفيتش قال فيه إن "لولا بولندا لما كنا بين الأحياء اليوم. في كل الجوانب: الإنسانية والسياسية والعسكرية. لقد أنقذت بولندا أوكرانيا بشكل فعال".

مراقبون ترجموا خطوات بولندا الأخيرة بمنع الحبوب الأوكرانية على أنها خطوة شعبوية لاستمالة الناخبين لصالح التحالف اليميني الحاكم في ظل الانتخابات البرلمانية المنعقدة في شهر أكتوبر القادم.

الحزب الشعبوي الحاكم يخشى من أن شعبية تيار أقصى اليمين المتطرف في ازدياد وأن هذا التيار يلعب على وتر شعور بعض البولنديين بالسخط تجاه دعم حكومتهم السخي لأوكرانيا خلال الحرب.

لذلك لا تريد الحكومة البولندية أن يقال إنها تضر بالمزارعين البولنديين واقتصاد البلاد الزراعي إذما سمحت بمرور الحبوب الأوكرانية الرخيصة لأراضيها.

الرئيس البولندي أقر بأن الأمر مرتبط بالخوف من مزاج الشارع، حيث قال "إنه من الطبيعي أن كل حكومة يتوجب عليها الاعتناء بمواطنيها. نحن أيضاً منتخبون بشكل ديمقراطي ومن واجبنا الاهتمام بمصالح ناخبينا".

أحد أسباب الأزمة الرئيسية بين بولندا وأوكرانيا في مسألة الحبوب هي روسيا. حيث أنهت اتفاق الحبوب الذي توسطت فيه تركيا والأمم المتحدة بين موسكو وكييف لإنشاء ممر بحري آمن لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود دون أن تعترضها السفن الروسية.

الكرملين يقول إن الاتحاد الأوروبي لم يفِ بكافة التزاماته في هذا الاتفاق ومن ضمنها رفع العقوبات عن البنك الزراعي الروسي والصادرات الزراعية، وأن روسيا لا يوجد لديها حافز للاستمرار بالعمل بالاتفاق لحين رضوخ الأوروبيين لشروطها.

إغلاق الممر الأمن يعني ارتفاع اعتماد أوكرانية على جارتها البولندية لتصدير الحبوب للخارج، لكن الموانئ البولندية ليس لديها السعة الكافية لتصدير الكميات الضخمة من الحبوب الأوكرانية المتراكمة بعد إغلاق الطريق البحري.

"في فبراير، تم نقل 114 ألف طن من الحبوب الأوكرانية عبر الحدود البولندية، وفي مارس أصبح الرقم 120 ألف. في يونيو، ارتفع الرقم لـ260 ألف طن، ما يعني أنه ازداد بأكثر من الضعف" هكذا رد وزير الزراعة البولندي روبرت تيلوس على خطاب زيلينسكي.

بولندا تقول إنها تسمح للحبوب الأوكرانية بالمرور عبر أراضيها كدولة ترانزيت ليتم نقلها بعد ذلك عبر الموانئ البولندية لدول خارج أوروبا، وأن منعها لواردات الحبوب الأوكرانية هو مقتصر على بيع تلك الحبوب في أسواق بولندا المحلية لحماية الاقتصاد الزراعي الداخلي وتنافسية المنتج المحلي.

علاوة على ذلك، تقول بولندا إن قطاع الحبوب الأوكرانية تسيطر عليه "أوليغارشية" أي أقلية متنفذة غنية، وأن رجال الأعمال الأثرياء المنتجين للحبوب يتهمون بالربح والكم أكثر من الجودة.

لذلك استهجنت النائبة البولندية في البرلمان الأوروبي التصريحات الأوكرانية قائلة "رئيس أوكرانيا في منتدى الأمم المتحدة يشكو من...حسنًا، ماذا بالضبط؟ ممر عبور الحبوب الأوكراني موجود. ومن المؤسف أن الأوليغارشية الأوكرانية هي التي استغلت هذه الفرصة وأغرقت أسواق دول الاتحاد الأوروبي بالحبوب، بدلاً من نقلها إلى مناطق أبعد. إن ادعاءات زيلينسكي اليوم هي تلميحات لا تليق بمثل هذا السياسي الجاد".

مراسل قناة فرانس 24 جاليفر جريغ أقر بأن أصحاب مزارع الحبوب في أوكرانيا هم في الغالب من الأثرياء ورجال الأعمال الكبار، ولكنه يقول إن أوكرانيا ترى أنه من غير المنصف وصفهم بالأوليغارشيين لأنهم يعانون من مخاطر اقتصادية بسبب انقطاع صادراتهم عن أغلب زبائنهم.

عندما قال ممثل أوكرانيا للشؤون التجارية تاراس كاتشكا لصحيفة بوليتيكو الأوروبية إن بلاده عازمة على مقاضاة دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، كان رد دبلوماسي أوروبي للصحيفة "هل كان هذا الرجل سكراناً؟"

لم يتوقع أحد في بروكسل أن تكون أوكرانيا جادة في نبرته الصدامية الجديدة تجاه أهم داعميها. لكن كاتشكا كان صادقاً في وعده، وقامت كييف فعلاً برفع دعوى قضائية ضد سلوفاكيا وبولندا وهنجاريا أمام منظمة التجارة العالمية.

الاتحاد الأوروبي كان قد أصدر قراراً قبل عدة أشهر بمنع صادرات الحبوب الأوكرانية لخمس دول أعضاء فيه، لكنه رفض تجديد قرار الحظر هذا في يوم 15 سبتمبر ما دفع الدول الثلاث التي اختصمتها أوكرانيا لاتخاذ قرار أحادي الجانب لتمديد حظر الحبوب، بينما تراجعت دولتان هما بلغاريا ورومانيا.

وسط إعلان بولندا وقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا، واستنزاف الجيش الأوكراني لكميات كبيرة من الذخيرة التي وصلتهم، فجر موقع انترسيبت الأميركي، المختص في الصحافة الاستقصائية، مفاجأة عندما قالت إن الولايات المتحدة عقدت صفقة سرية مع باكستان تعد لوياً للذراع.

باكستان كانت على حافة الإفلاس حيث أثقلتها الديون الخارجية بشكل كبير وعجزت عن توفير العملة الصعبة ودفع التزاماتها للدائنين الدوليين. هنا عرضت الحكومة الأميركية صفقة على إسلام أباد: أن يمدوا أوكرانيا بالسلاح والذخيرة وفي المقابل تتوسط لهم أميركا في قرض جديد من صندوق النقد الدولي والسماح للجيش بتأجيل الانتخابات وتعميق القمع ضد المواطنين وحبس رئيس الوزراء السابق عمران خان.