سياسة
.
في مايو 2022، اجتمع عدد قليل من كبار الضباط ورجال الأعمال الأوكرانيين للاحتفال بنجاح بلادهم في صد الهجوم الروسي على العاصمة كييف. وبفضل الكحول والحماس، اقترح أحدهم خطوة جذرية تالية وهي تدمير خط الغاز العملاق "نورد ستريم".
كانت خطوط الأنابيب المزدوجة للغاز الطبيعي التي تحمل الغاز الروسي إلى أوروبا تضخ مليارات الدولارات للكرملين، فوجد الأوكرانيون فيها الطريقة الأفضل لضرب الاقتصاد الروسي.
مسؤولون سياسيون، والإعلام الغربي، اتهموا روسيا بتفجير خط الغاز، لكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أكد أن الولايات المتحدة وأوكرانيا تقفان خلف العملية، خلال حواره الشهير مع الإعلامي الأميركي، تاكر كارلسون، حينما رد على سؤاله مَن يقف وراء تفجير نورد ستريم؟ ليرد بشكل قاطع: أنتم.
خلال الساعات الأولى من صباح 26 سبتمبر 2022، التقط علماء الزلازل الإسكندنافيون إشارات تُظهر زلزالا تحت الماء، أو شيئا يشبه ثورانا بركانيا بالقرب من جزيرة بورنهولم الدنماركية.
ونجم عن التفجير أكبر تسريب للغاز الطبيعي تم تسجيله على الإطلاق، وهو ما يعادل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية في الدنمارك.
4 مسؤولين كبار في الدفاع والأمن الأوكرانيين شاركوا في العملية تحدثوا لصحيفة وول ستريت جورنال، في تحقيق نُشر مساء الأربعاء 14 أغسطس، وقالوا جميعا إن خطوط الأنابيب كانت هدفا لأوكرانيا.
الشرطة الألمانية التي أجرت تحقيقا لمدة عامين حصلت على أدلة بما في التخطيط للعملية والاتصالات عبر الهواتف المحمولة والأقمار الاصطناعية، بالإضافة إلى بصمات الأصابع وعينات الحمض النووي من فريق التخريب، ولكن التحقيق لم يربط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بشكل مباشر بالعملية السرية، مثلما أثبتته الصحيفة الأميركية.
تكلفة العملية كشفتها الصحيفة، مؤكدة أنها لم تتجاوز 300 ألف دولار، وفقا للأشخاص الذين شاركوا فيها، وشملت استئجار يخت صغير وطاقم مكون من ٦ أفراد محترفين، بما في ذلك الغواصين المدربين، بالإضافة إلى فتاة كان الهدف منها هو "التمويه".
حضور الفتاة على القارب أعطى انطباعا بأنهم مجموعة من الأصدقاء يستمتعون برحلة بحرية ترفيهية.
أحد الضباط الذين شاركوا في العملية قال للصحيفة الأميركية: "أضحك دائما عندما أقرأ تكهنات وسائل الإعلام حول بعض العمليات الضخمة التي تنطوي على أجهزة سرية وغواصات وطائرات من دون طيار وأقمار صناعية".
يشرح: "لقد ولد الأمر برمته من العزيمة الحديدية لحفنة من الناس امتلكوا الشجاعة للمخاطرة بحياتهم من أجل بلدهم كانوا حاضرين في حفل ويشربون الخمر".
في مايو 2022 عُقد اتفاق مع رجال أعمال لتمويل العملية. هذا الاتفاق وصفه أحد المشاركين بأنه "كان بمثابة شراكة بين القطاعين العام والخاص".
اختارت القيادة العسكرية الأوكرانية جنرالا للإشراف على المهمة، على أن يقدم تقاريره مباشرة إلى رئيس أركان القوات المسلحة الأوكرانية، آنذاك، فاليري زالوزني.
وفقا للأشخاص الـ4 المطلعين على الخطة، وافق زيلينسكي على "العملية" في غضون أيام.
آثار تسريب الغاز بعد تفجير نورد ستريم - AP
كانت كل الترتيبات شفاهية، لكن في الشهر التالي، علمت وكالة الاستخبارات العسكرية الهولندية MIVD بالمؤامرة وحذرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، CIA، وفقا لأشخاص مطلعين على التقرير الهولندي، وبعدها أبلغ المسؤولون الأميركيون ألمانيا على الفور.
قال مسؤولون أميركيون إن الـCIA حذر مكتب زيلينسكي من العملية، فأمر الرئيس الأوكراني بوقفها، وفقا لضباط أوكرانيين ومسؤولين مطلعين على المحادثة وكذلك مسؤولي استخبارات غربيين للموقع الأميركي، لكن الجنرال تجاهل الأمر، وعدل فريقه الخطة الأصلية، وفقا لهؤلاء الأشخاص الذين برأوا زيلنسكي من الموافقة على الخطة.
وبعدها استقر المخططون على استخدام قارب شراعي صغير وفريق مكون من 6 أفراد، مزيج من الجنود المخضرمين في الخدمة العسكرية، والمدنيين ذوي الخبرة البحرية، لتفجير خطوط الأنابيب التي يبلغ طولها 700 ميل، وتقع على عمق أكثر من 260 قدما تحت سطح البحر.
في سبتمبر 2022، استأجر المخططون يختا ترفيهيا فاخرا يسمى أندروميدا من مدينة روستوك الساحلية الألمانية على بحر البلطيق. تم استئجار القارب بمساعدة وكالة سفر بولندية أنشأتها المخابرات الأوكرانية كغطاء للمعاملات المالية، وفقا لضباط أوكرانيين.
وتشكّل الفريق من ضابط أوكراني، و٤ غواصين ذوي خبرة في أعماق البحار، ومدنيين، أحدهم كانت امرأة في الثلاثينيات من عمرها تدربت بشكل خاص للغوص، وتم اختيارها بعناية لمهاراتها، وأيضا لإضفاء المزيد من المصداقية على تمويه الطاقم وكأنهم أصدقاء يخرجون في إجازة.
انطلق إفراد الطاقم يحملون معدات الغوص فقط والملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، وسونار محمول وخرائط مفتوحة المصدر لقاع البحر توضح موقع خطوط أنابيب نورد ستريم.
عمل الغواصون الـ4 في المياه الجليدية المظلمة، وتعاملوا مع متفجرات قوية تُعرف باسم HMX والتي تستطيع كمية صغيرة منها تمزيق الأنابيب ذات الضغط العالي.
في أثناء اندفاعهم لمغادرة ألمانيا، أهمل طاقم التخريب غسل القارب وتنظيفه جيدا، مما سمح للمحققين الألمان بالعثور على آثار متفجرات وبصمات أصابع وعينات من الحمض النووي للطاقم.
في نفس الوقت الذي كانت تحقق خلاله الاستخبارات الألمانية في تورط الأوكرانيين، كان رئيس وكالة الاستخبارات الفيدرالية الألمانية، آنذاك، جيرهارد شندلر، يلمح إلى تورط روسيا في تنفيذ التفجير، مؤكدا أن العملية لا يمكن تنفيذها إلا من خلال جهة تابعة لدولة، بحسب تصريحه لموقع بوليتيكو.
لاحقا، حدد المحققون أرقام هواتف أفراد العملية، وهاتفهم المتصل بالأقمار الاصطناعية، وسمحت لهم هذه البيانات بإعادة بناء تصور واضح لكيفية تنفيذ العملية التي تنقل أفرادها بين ألمانيا والدنمارك والسويد وبولندا.
وفي يونيو الماضي، أصدر المسؤولون الألمان مذكرة اعتقال سرية لمواطن أوكراني قال الألمان إنه أحد أفراد الطاقم، وفقا لأشخاص مطلعين على التحقيق، تم التقاط صورة لشاحنة صغيرة كانت تقل فريق التخريب الأوكراني من بولندا إلى ألمانيا، بواسطة كاميرا سرعة ألمانية، وكان الرجل، وهو مدرب غوص يعيش مع عائلته بالقرب من وارسو، ظاهرا في الصورة.
لم تتحرك السلطات في بولندا بناء على مذكرة التوقيف، ويعتقد أن المدرب عاد وقتها إلى أوكرانيا. وقال أشخاص مطلعون على التحقيق إن فشل بولندا في اعتقاله يشكل ضربة قوية لجهات التحقيق الألمانية، لأنه والمشتبه بهم الآخرون تم إخطارهم الآن وسيتجنبون السفر خارج أوكرانيا.
قد تؤدي هذه النتائج الجديدة إلى قلب العلاقات بين كييف وبرلين، التي قدمت الكثير من التمويل والمعدات العسكرية لأوكرانيا، وحلت في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في قائمة الدول التي تقدم مساعدات مالية وعسكرية لأوكرانيا.
مسؤول ألماني كبير مطلع على التحقيق أخبر الصحيفة الأميركية أن "هجوما بهذا الحجم هو سبب كافٍ لتفعيل بند الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي، فبنيتنا التحتية الحيوية تعرضت للتفجير من قبل دولة ندعمها بشحنات أسلحة ضخمة ومليارات الدولارات نقدا".
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة