سياسة
.
"يجب عليكي مساعدتنا ودعينا نعتني بك. أنت لا تريدين التورط في أشياء يمكن أن تعرض أمنك أو أمن عائلتك للخطر"، هذا كان جوهر تهديد صريح من رئيس الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، للمدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، في محاولة لثنيها عن فتح تحقيق ضد إسرائيل، بحسب موقع mekomit الإسرائيلي.
ووفق تحقيق مشترك بين صحيفة الغارديان ومجلة +972 ومجلة Local Call فإن كوهين، المبعوث الشخصي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، استخدم "تكتيكات حقيرة" ولاحق بنسودا والمحكمة الدولية على مدار عقد من الزمان في محاولة لتخويف بنسودا أو ابتزازها والتأثير عليها.
وحاول كوهين أيضا جمع معلومات ابتزاز ضد أفراد عائلة المدعية العامة، وخاصة زوجها، بمساعدة رئيس جمهورية الكونغو.
فما قصة هذه الحرب السرية؟ وهل تنجح إسرائيل في التأثير على مدعي عام محكمة لاهاي الجديد كريم خان؟ وكيف تحاول الحكومة الإسرائيلية استخدام أساليب قذرة لمنع محاسبتها في المحاكم الدولية؟
مؤامرة إسرائيل السرية لتهديد وابتزاز ومحاولة تجنيد المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية بدأت في عام 2015، عندما قررت فاتو بنسودا فتح مجرد تحقيق أولي غير كامل وغير رسمي في الوضع في فلسطين.
إسرائيل خشيت ملاحقة مسؤولين في الجيش والحكومة بتهم جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب متعلقة بالنشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وهدم بيوت وتهجير الفلسطينيين وحروب إسرائيل المتكررة على غزة التي قتلت آلاف المدنيين والأطفال والنساء.
بحسب صحيفة الغارديان، بدأت بنسودا وكبار مسؤولي المحكمة في عام 2015 بتلقي تحذيرات أن المخابرات الإسرائيلية تراقب عملهم عن كثب واخترقت مكتب المدعية العامة وتجنيد عملاء داخله.
يوسي كوهين، المقرب بشدة من نتنياهو، كان في ذلك العام رئيسا لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي حتى عام 2016، وأشرف على الهيئة التي بدأت في تنسيق جهد متعدد الوكالات الأمنية الإسرائيلية ضد المحكمة الجنائية الدولية بمجرد أن فتحت بنسودا التحقيق الأولي في 2015.
وبعد تولي كوهين رئاسة جهاز الموساد عام 2016، قام بلقاء فاتو بنسودا على هامش مؤتمر ميونيخ الأمني في عام 2017 وقدم نفسه للمدعية العامة في تبادل قصير.
في العام التالي، نصب كوهين فخا لبنسودا في فندق مانهاتن بنيويورك عندما كانت تجتمع مع رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية آنذاك، جوزيف كابيلا، كجزء من تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم حرب مزعومة ارتكبت في الكونغو الديمقراطية.
وسط الاجتماع، طُلب من موظفي بنسودا مغادرة الغرفة ودخل رئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين فجأة ما أثار قلق المدعية العامة ومجموعة من مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية الذين كانوا يسافرون معها.
بعد ذلك الاجتماع المفاجئ في نيويورك، اتصل كوهين مرارا بهاتف المدعية العامة الخاص وطلب عقد اجتماعات معها. وعندما سألته في إحدى المراحل كيف حصل على رقم هاتفها، أجاب: "هل نسيتي ما أفعله من أجل لقمة العيش؟"، في تفاخر بقدرات جهاز الموساد.
الصحيفة البريطانية تنقل عن مصادر عدة أن كوهين حاول في البداية بناء علاقة طيبة مع بنسودا ولعب دور "الشرطي الصالح" في محاولة لسحرها وتجنيدها للتعاون مع إسرائيل.
ولكن مع مرور الوقت، بدأت لهجة كوهين بالتغير، وبدأ في استخدام مجموعة من تكتيكات التهديد والتلاعب والابتزاز ضد المدعية العامة، ما دفعها لإبلاغ مجموعة صغيرة من كبار مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية بسلوكه.
وتضيف الغارديان أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، كانت أيضا جزءا من الحرب الإسرائيلية السرية لممارسة الضغط على المدعية العامة وموظفيها وابتزازها.
صحيفة الغارديان تقول إن رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية في ذلك الوقت، جوزيف كابيلا، كان مربط الفرس واللاعب الرئيسي في دعم المؤامرة الإسرائيلية السرية ضد المحكمة الدولية.
فقد بنت إسرائيل علاقة سرية وطيدة مع كابيلا الذي حكم الكونغو الديمقراطية لنحو عقدين من الزمان خليفة لوالده لوران كابيلا الذي قاد انقلابا مدعوما من أطراف خارجية ضد الرئيس موبوتو سيسي سيكو في عام 1996 وتم اغتياله عام 2001 ليخلفه ابنه الشاب.
صحيفة The Marker الإسرائيلية كشفت في عام 2022 عن سلسلة من الرحلات السرية التي قام بها رئيس الموساد كوهين لجمهورية الكونغو الديمقراطية طوال عام 2019 للمشورة في "قضية تهم إسرائيل".
وقالت الصحيفة إن تلك الرحلة كانت "غير عادية للغاية وأذهلت كبار الشخصيات في مجتمع الاستخبارات"، وأضافت أنه ممنوع نشر تفاصيل الرحلة بأمر من الرقيب العسكري الإسرائيلي، وأن الكشف عن هدف الرحلة ربما يعرض إسرائيل لضرر جسيم في صورتها دوليا.
كما نقلت هيئة الإذاعة الإسرائيلية Kan 11 إن رحلات كوهين كانت تتعلق بـ"خطة مثيرة للجدل للغاية" ووصفتها بأنها "واحدة من أكثر أسرار إسرائيل حساسية".
صحيفة الغارديان قالت إن تلك الرحلات كانت مرتبطة جزئيا بالحرب السرية ضد المحكمة الجنائية الدولية، وأن كابيلا الذي ترك منصبه في يناير 2019 لعب دورا داعما مهما في مؤامرة الموساد ضد بنسودا.
كوهين التقى أيضا برئيس الكونغو الجديد، فيليكس تشيسكيدي، خلال زيارته في عام 2019، ولكن طُرد من البلد خلال الزيارة الأخيرة لأن التقى بخصم تشيسكيدي السياسي الرئيس السابق كابيلا بحسب صحيفة TheMarker.
لفتت صحيفة الغارديان إلى أن جهاز الموساد الإسرائيلي اهتم بشدة بأفراد عائلة بنسودا وجمع المعلومات عنهم، لتهديدها وابتزازها بهم.
وخلال أحد لقاءات كوهين الثلاث مع المدعية العامة في أواخر عام 2019 وأوائل عام 2021، عرض كوهين صورا لزوج بنسودا الذي كان يعمل مستشارا للشؤون الدولية، وقد التقطت تلك الصور سرّا عندما كان الزوجان يزوران لندن.
تفيد الغارديان بأن إسرائيل حصلت على تسجيلات سرية لزوج المدعية العامة ومواد أخرى واضحة ضد زوجها وحاولوا ابتزازها بتلك المواد ومساومتها وتشويه سمعتها، وقال لها كوهين إن فتح تحقيق كامل ضد إسرائيل سيضر بمسيرتها المهنية.
وحصل على نسخ من التسجيلات السرية لزوجها، وفقا لمصدرين على دراية مباشرة بالوضع. ثم حاول المسؤولون الإسرائيليون استخدام هذه المواد لتشويه سمعة المدعي العام.
بدى أن حملة إسرائيل لتهديد وابتزاز فاتو بنسودا نجحت في بداية الأمر، حيث قامت المدعية العامة بإغلاق التحقيق ضد إسرائيل في قضية سفينة مافي مرمرة التي هاجمها الجيش الإسرائيلي واستولى عليها وقتل العديد من المتطوعين على متنها الذين أرادوا كسر الحصار على غزة.
قال قضاة المحكمة الجنائية الدولية إن قرار بنسودا بإغلاق ملف تلك القضية كان مليئا بالأخطاء في بناء استنتاجاتها حول تلك المسألة، لكنهم رفضوا أيضا إعادة فتح القضية.
المدعية العامة تلكأت أيضا لـ5 سنوات كاملة في فتح تحقيق رسمي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحتى عندما صرحت في عام 2019 أن لديها أسبابا لفتح تحقيق جنائي كامل في مزاعم ارتكاب جرائم حرب في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، ماطلت أيضا لعامين أخرين.
بنسودا قررت في ذلك الوقت أن تطلب حكما من الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية لتأكيد أن المحكمة لها بالفعل ولاية قضائية على فلسطين، رغم أن فلسطين كانت عضوا رسميا في ميثاق روما الأساسي ومحكمة لاهاي.
ولكن عندما أصدر قضاة المحكمة قرارا بأن هناك ولاية قضائية وصلاحية للتحقيق في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أعلنت بنسودا فتح التحقيق بشكل رسمي قبل شهرين فقط من تركها منصبها بسبب تكثيف الضغوط الخارجية والداخلية عليها للتحرك.
لذلك، قال البروفسور الأميركي، نورمان فنكلشتاين، في كتابه "أنا أتهم" في عام 2019 إن المدعية العامة فاتو بنسودا متورطة في تبييض صورة إسرائيل والدفاع عنها، وقدم فنكلشتاين أدلة متعددة تدين بنسودا.
وعندما تولى خليفتها المفضل لإسرائيل، كريم خان، منصب المدعي العام للمحكمة، ماطل هو أيضا ولم يتخذ أي إجراء ضد إسرائيل لـ3 سنوات.
كما خان بزيارة إسرائيل وأعرب عن تعاطف مع العائلات الإسرائيلية في بلدات غلاف غزة، من دون أن يقوم بأي زيارة مشابهة للقطاع المحاصر.
ولكن في نهاية الأمر، بعد أن قالت محكمة العدل الدولية إن هناك أرضية للاعتقاد بأن ما تفعله إسرائيل في غزة قد يرقى لجريمة الإبادة الجماعية، تحرك خان أخيرا تحت الضغوط الدولية والداخلية وتقدم بطلب للدائرة التمهيدية للمحكمة لإصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف غالانت، في شهر مايو.
حرب إسرائيل السرية ضد المحكمة الجنائية الدولية استمرت ضد المدعي العام الجديد كريم خان، والأخير صرح في شهر مايو إنه يتعرض لضغوط قوية ومحاولة لإعاقة وتخويف والتأثير على عمله "بشكل غير لائق".
ونقلت صحيفة الغارديان عن مكتب خان أنه تعرض "لأشكال عدة من التهديدات والاتصالات التي يمكن اعتبارها محاولات للتأثير بشكل غير مبرر على أنشطته".
خان صرح في لقاء مع قناة سي إن إن الأميركية أن زعيم أميركي بارز قال له إن المحكمة الدولية مخصصة فقط لملاحقة "السفاحين مثل بوتين والزعماء الأفارقة"، ويُعتقد بأن ذلك الزعيم هو السيناتور الأميركي ليندسي غراهام الذي دعى لمسح غزة عن الوجود.
أما صحيفة زيتيو الأميركية، فكشفت عن رسالة أرسلها 12 سيناتورا أميركيا نافذا لكريم خان حذروه فيها من إصدار مذكرات اعتقال دولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي أو أي مسؤول إسرائيلي آخر، وهددوه بـ"عقوبات صارمة" إذا فعل ذلك.
الرسالة المقتضبة من صفحة واحدة هددت خان بالقول "استهدف إسرائيل وسنستهدفك"، وأضاف الموقعون أنه "سنعاقب موظفيك وشركائك، وسنمنعك أنت وعائلاتك من دخول الولايات المتحدة". وختمت الرسالة بعبارة "لقد تم تحذيرك".
من الموقعين على تلك الرسالة السيناتور، ماركو روبيو، وتوم كوتون، وتيد كروز، المقربين من الرئيس السابق دونالد ترمب.
كذلك قال وزير الخارجية، أنتوني بلينكن إنه والرئيس بايدن سعيدان بالعمل مع الكونغرس على اتخاذ "الرد المناسب" على إصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال للقادة الإسرائيليين في إشارة لعقوبات محتملة.
الكونغرس الأميركي سن قانون "اجتياح لاهاي" الذي يتيح للرئيس استعمال جميع الخيارات الممكنة لمنع المحكمة الجنائية الدولية من المساس بأي مسؤول أميركي أو من الدول الحليفة للولايات المتحدة.
الكشف عن حملة إسرائيل لتهديد وابتزاز المحكمة الجنائية الدولية يسلط الضوء على حملتها السابقة لابتزاز وتهديد المسؤول الأممي المرموق والقاضي اليهودي الجنوب أفريقي، ريتشارد غولدستون.
ففي عام 2010، فجر غولدستون ضجة صاخبة ضد إسرائيل بعد تقديمه تقريرا حول "حرب الرصاص المصبوب" على غزة عام 2008-2009 قال فيه إن إسرائيل استهدفت المدنيين بشكل متعمد في "هجوم غير متناسب يهدف إلى معاقبة وإذلال وإرهاب السكان المدنيين".
التقرير أدى لضغوط دولية قوية ضد إسرائيل وموجة غضب في الرأي العام العالمي، وهو ما دفع إسرائيل لممارسة شتى أنواع الضغوط ضد غولدستون والسلطة الفلسطينية لسحب التقرير الذي يدينها بأبشع الجرائم تحت القانون الدولي.
وبعد عام من الضغوط والتهديدات، قام غولدستون بالتضحية بمسيرته المهنية عندما كتب مقالا في صحيفة واشنطن بوست أعلن فيه أنه يسحب ويتراجع عن استنتاجات تقريره حول حرب غزة، وانسحب بعدها القاضي المرموق من المشهد السياسي والحياة العامة بشكل كامل حتى اليوم.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة