مستوطنو الضفة.. نفوذ يتوسع بـ"نعيم" الحصانة

تحقيق الجيش الإسرائيلي كشف عن وجود "تحذير إقليمي" قبل شن المستوطنين لهجومهم على قرية جيت، إذ لاحظ جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) أن المتطرفين كانوا يتجمعون في سيارات بأعداد كبيرة، مما دفع قوات الأمن إلى الانتشار حول التقاطعات والطرق الرئيسية.

مع ذلك، لم يغلق الجيش الإسرائيلي مدخل قرية جيت، ولم يتتبع الشاباك تحركات المهاجمين كما يفعل في بعض الأحيان عبر استخدام الطائرات المسيرة.

المستوطنون في العادة يشنون هجمات بهذا الحجم كنوع من "الثأر"، ما يجعل من السهل التنبؤ بهجماتهم.

فبعد قيام أي فلسطيني بهجوم مسلح ضد هدف إسرائيلي، ينقض المستوطنون على قرى فلسطينية بشكل عشوائي كنوع من الانتقام.

لكن هذه المرة، لم يكن هناك أي سبب مباشر للهجوم أو لاختيارهم تلك القرية القريبة من نابلس على وجه التحديد سوى أنها لم تتعرض للهجوم من قبل، ما شكل عنصر مفاجأة.

المستوطنون دخلوا القرية في الساعة 8 مساء. ووصل للجيش إخطار بذلك، فقام بإرسال قوة في الساعة 8:06، لكن عدد الجنود كان قليلا للغاية.

بعض الجنود انضموا للمستوطنين في هجومهم على القرية، ولكن الجيش حاول تبرير ذلك بالقول إنهم جنود احتياط ومتطوعي أمن خاص أتوا للمنطقة بشكل فردي من دون أي تعليمات وهم ويرتدون زي الجيش ويحملون الأسلحة.

حتى بعد وصول قوات أكبر للمكان، تجنب الجنود إطلاق أي ذخيرة حية تجاه المستوطنين لتفريقهم أو حتى إطلاق النار على أرجلهم عند محاولة بعضهم الفرار، وهو عكس سلوك الجيش ضد الفلسطينيين إذ يقوم الجنود دائما بإطلاق النار على أرجل وأجساد المشتبه بهم عند محاولة الفرار.

ولم يقم الجيش أيضا باعتقال أي شخص من المهاجمين. وتحت الضغط الدولي، قام جهاز الشاباك بإيقاف 4 أشخاص فقط من أصل 100 بأمر إداري من دون توجيه أي تهم لهم.

المستوطنون يعيشون فترة "المعجزات" منذ 7 أكتوبر، بحسب وزيرة الاستيطان أوريت ستروك.

الوزيرة المستوطنة المنحدرة من حزب الصهيونية الدينية المتطرف قالت في شهر يوليو في بؤرة استيطانية جنوب الخليل "أشعر وكأنني شخص كان ينتظر عند إشارات المرور ثم يأتي الضوء الأخضر" في إشارة إلى أن المستوطنين يعيشون عصرهم الذهبي في الأشهر الأخيرة وأصبح بمقدورهم فعل ما يريدون.

كلام الوزيرة لم يكن مجرد تعبير لغوي، فعلى الصعيد الرسمي قامت الحكومة الإسرائيلية هذا العام بأكبر عملية استيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة منذ اتفاق أوسلو لعام 1993.

كما أعلنت بناء عشرات آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة في مختلف أنحاء الضفة و"شرعنت" عشرات البؤر الاستيطانية التي تعتبر غير قانونية حتى تحت القانون الإسرائيلي نفسه، أما القانون الدولي فيعتبر أي وجود إسرائيلي في الضفة غير شرعي بالمطلق.

وإذا لم يكن استيلاء الحكومة على أراضي الفلسطينيين كافيا، فإنه بإمكان المستوطنين حاليا حمل أسلحتهم ودخول أي قرية بأعداد كبيرة وترهيب أهلها أو حتى إجبارهم على الرحيل تحت التهديد بالقتل.

ففي شهر أكتوبر الماضي، عكف المستوطنون على اقتحام قرية خربة زنوتة جنوب الخليل وقاموا بضرب سكانها وتهديدهم بالقتل وتخريب معداتهم ومنازلهم، بينما تجاهل الجيش والشرطة الإسرائيلية نداءات الاستغاثة من السكان رغم تواجدهم في المنطقة.

دفع هذا أهل خربة زنوتة لحزم ما استطاعوا من أمتعتهم والرحيل بشكل مؤقت مع عائلاتهم، ليسارع المستوطنون والجيش لمسح القرية تماما من على الخريطة وهدم جميع مبانيها بحسب صحيفة نيويورك تايمز.

سكان الخربة توجهوا للمحكمة الإسرائيلية العليا مع أهالي 5 قرى مجاورة بمساعدة من منظمة حقوقية إسرائيلية، وفي سابقة نادرة، حكمت المحكمة لصالحهم في شهر مايو بإتاحة عودتهم للقرية التي سيطر عليها المستوطنون، ولكن الحكم بات بدون تنفيذ.

أما على الصعيد العسكري، المستوطنون الذين يشكلون فقط 5% من مجموع السكان في إسرائيل، بات لديهم تمثيل كبير في الجيش الإسرائيلي على مختلف الأصعدة بحسب ذا إكونوميست.

رئيس أركان الجيش، هرتسي هاليفي، مستوطن، والحاكم العسكري للضفة الغربية آفي بلوث مستوطن متطرف ترعرع في مستوطنة حلميش القريبة من رام الله وينحدر من تيار الصهيونية الدينية.

العديد من الضباط والجنود الذين يشاركون في الحرب على غزة مستوطنون كذلك، وهو ما يفسر قيام العديد من وحدات الجيش بالصلاة قبل المعارك وارتداء شعارات تصور المعبد اليهودي القديم في القدس.

لذلك، يقول رون شابسبيرج، الضابط في الجيش الإسرائيلي والذي يتتبع اتساع نفوذ المستوطنين في صفوفه "إنهم متعلمون تعليماً جيداً، ومدفوعون بأيديولوجية قوية، وأقوياء عقليا. إنهم يخططون لثورة هادئة".

هذا النفوذ يعطي المستوطنين قدرة غير مسبوقة على تغيير ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهو يبسط يدهم على سبيل المثال لتدمير مناطق بأكملها في غزة وشن عمليات مكثفة وبقوة مفرطة أكبر في الضفة وسط غض بصر بالكامل عن هجماتهم على القرى والمدن الفلسطينية.

لذلك، لم يكن من المفاجئ أن الضابط الذي أمر بقتل فريق مطبخ الغذاء العالمي بأكمله في غزة في شهر أبريل كان مستوطنا متطرفا أيضا يدعى، نوتشي مندل، من مستوطنة غوش عتصيون، وكان قد وقع على عريضة تطالب بتجويع غزة.

المستوطنون حاليا أقوى من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فأحزابهم الرئيسية "عوتسما يهوديت" و"الصهيونية الدينية" يستطيعان في أي لحظة التسبب بانهيار الحكومة إذا ما انسحب أي منهما، ولا يوجد لنتنياهو أي بديل عنهما.

وهناك العديد من نواب الكنيست من حزب الليكود نفسه الذين يقطنون في مستوطنات مثل يولي إدليشتاين في غوش عتصيون وغاليت دستيل أتابريان في كفار أورانيم وأفيشاي بارون وغيرهم الكثير.

وأصبح وزير الأمن المسؤول عن الشرطة هو المستوطن إيتمار بن غفير وصار وزير المالية المستوطن بتسلئيل سموتريش وكلاهما من أعلام حركة الاستيطان في الضفة ويستخدمان نفوذهما بشكل كبير لتوسعة المستوطنات.

الضابط الإسرائيلي الكبير والذي كان مسؤولا عن الضفة، كان قد اشتكى في رسائل لقيادته في الجيش من "انهيار شبه كامل لإنفاذ القانون" ضد المستوطنين في منطقة قيادته منذ تولي حكومة نتنياهو الحالية الحكم نهاية عام 2022.

وحذر فوكس من أن هناك "موجة إرهاب يهودي" تنذر بإشعال الضفة الغربية وأن الشرطة التي يحكمها بن غفير تتساهل مع هذا الأمر بالكامل وتغض البصر عن اعتقال أي جناة من المستوطنين أو التحقيق معهم.

وحذر فوكس أيضا من أنه منذ تولى سموتريتش وزارة المالية، تضاءلت الجهود الرامية لقمع بناء البؤر الاستيطانية غير القانونية إلى حد اختفاء تلك الجهود تماما، وبات بإمكان المستوطنين الاستيلاء على أي أرض في أي وقت وبناء مستوطنة جديدة من دون إذن أو ترخيص من أي سلطة إسرائيلية.

ومنحت حالة الطوارئ التي تلت هجوم 7 أكتوبر المستوطنين نفوذا أكبر.

ففي أعقاب عملية "طوفان الأقصى" استدعى الجيش نحو 7 آلاف من المستوطنين، وألبسهم الزي العسكري، وسلحهم وأمدهم بالعتاد لكي يقوموا بتأمين المستوطنات في حال وقوع أي هجوم عليها.

الجيش الإسرائيلي يزعم أنه أعطى المستوطنين أوامر محددة بعدم مغادرة المستوطنات أو تغطية وجوههم أو إقامة حواجز قطع طرق غير مصرح بها.

لكن صحيفة نيويورك تايمز تقول إن المستوطنين المسلحين فعلوا العكس تماما، وغادروا مواقع خدمتهم داخل المستوطنات ونصبوا الكمائن وحواجز طرق لمضايقة الفلسطينيين وترهيبهم ويقومون بمهاجمة القرى والبلدات في الضفة وهم يرتدون الزي العسكري ويضعون الأقنعة ويحملون سلاح الجيش.

في حال حاول أي فلسطيني من القرى الواقعة تحت هجوم المستوطنين الدفاع عن نفسه، فإنه سيتعرض لخطر الموت بتهمة مهاجمة المستوطنين الذين يمكنهم قتله وزعم أنهم هم من كانوا يدافعون عن أنفسهم.

ووفقا لاتفاقية أوسلو، فإنه يحظر على الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية ملاحقة أو اعتراض المستوطنين أو أي شخص إسرائيلي في الضفة، إذ تحتفظ إسرائيل بالولاية القضائية على الإسرائيليين فقط.

هذا يعني أنه إذا دخل مستوطن لمنزل أي شخص فلسطيني وقام بسرقته أو تخريب ممتلكاته أو قتل أحد أفراد أسرته أو اختطافه فإن الضحية يمكنه فقط تقديم شكوى لدى الشرطة الإسرائيلية.

وتقع مراكز الشرطة تلك داخل المستوطنات غير الشرعية أصلا التي يحظر على الفلسطينيين دخولها إلا بتصريح أمني.

وإذا تمكن الضحية من الحصول على التصريح والمرور عبر الأمن لمركز الشرطة، فإنه سيتم تجاهله لساعات طويلة بحجة البحث عن مترجم عربي أو سيتم رفض استقباله والقول بأنه لا يملك الأوراق الصحيحة أو لا توجد أدلة كافية لتقديم بلاغ أو أي حجة أخرى لاستنزاف الفلسطينيين لكيلا يقدموا أي شكاوى ضد المستوطنين بحسب نيويورك تايمز.

وحتى إذا تمكن أحد الضحايا من تقديم بلاغ في الشرطة، فإن الأجهزة الأمنية في أغلب الحالات ستتجاهله أو تماطل في تنفيذه.

وإذا وصلت القضية للمحكمة بأعجوبة، وهو أمر نادر الحدوث، فإن فرص إدانة المستوطنين في تلك المحاكم لا تتجاوز 1.8%، بينما نسبة إدانة الفلسطينيين في المحاكم العسكرية الإسرائيلية تتجاوز 99.74%.

جهاز الشاباك المتخصص في منع "الهجمات الإرهابية"، توجد فيه شعبة تسمى "قسم مكافحة التجسس ومنع التخريب في القطاع اليهودي" أو "القسم اليهودي" لاعتقال المتطرفين الإسرائيليين.

لكن ذلك القسم أصغر حجما ومكانة من قسم ملاحقة الفلسطينيين في الشاباك، ويعمل بأدوات وقوانين مختلفة تماما وأقل فعالية من قوانين وأدوات ملاحقة واستجواب الفلسطينيين.

علاوة على ذلك، العديد من الأعمال العدائية التي يرتكبها المستوطنون، مثل إحراق المركبات وقطع بساتين الزيتون، تقع ضمن اختصاص الشرطة، التي تميل لتجاهل تلك الجرائم.

وحتى عندما يحقق الشاباك في تهديدات أكثر خطورة من المستوطنين، فإنه تلك التحقيقات تواجه عقبات لا تنتهي منذ البداية وثغرات متعددة تتيح للمستوطنين التنعم بالحصانة الكاملة.